{ 32 - 34 } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ *وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }
يخبر تعالى : أنه وحده { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } على اتساعهما وعظمهما ، { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } وهو : المطر الذي ينزله الله من السحاب ، { فَأَخْرَجَ } بذلك الماء { مِنَ الثَّمَرَاتِ } المختلفة الأنواع { رِزْقًا لَكُمْ } ورزقا لأنعامكم { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ } أي : السفن والمراكب .
{ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } فهو الذي يسر لكم صنعتها وأقدركم عليها ، وحفظها على تيار الماء لتحملكم ، وتحمل تجاراتكم ، وأمتعتكم إلى بلد تقصدونه .
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ } لتسقي حروثكم وأشجاركم وتشربوا منها .
وهنا يفتح كتاب الكون على مصراعيه فتنطق سطوره الهائلة بنعم الله التي لا تحصى . وتتوالى صفحاته الضخمة الفسيحة بألوان هذه النعم على مد البصر : السماوات والأرض . الشمس والقمر . الليل والنهار . الماء النازل من السماء والثمار النابتة من الأرض . البحر تجري فيه الفلك ، والأنهار تجري بالأرزاق . . هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار ، ولكن البشر في جاهليتهم لا ينظرون ولا يقرأون ولا يتدبرون ولا يشكرون : إن الإنسان لظلوم كفار . يبدل نعمة الله كفرا ، ويجعل لله أندادا ، وهو الخالق الرازق المسخر الكون كله لهذا الإنسان :
( الله الذي خلق السماوات والأرض ، وأنزل من السماء ماء ، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لكم الأنهار . وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ، وسخر لكم الليل والنهار . وآتاكم من كل ما سألتموه ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الإنسان لظلوم كفار ) .
إنها حملة . إنها سياط تلذع الوجدان . . حملة أدواتها الهائلة السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبحار والأنهار والأمطار والثمار . . وسياط ذات إيقاع ، وذات رنين ، وذات لذع لهذا الإنسان الظلوم الكفار !
إن من معجزات هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد . ويحول كل ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء . . وهكذا يستحيل الكون بكل ما فيه وبكل من فيه معرضا لآيات الله ، تبدع فيه يد القدرة ، وتتجلى آثارها في كل مشهد فيه ومنظر ، وفي كل صورة فيه وظل . . إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة " ميتافيزيقية " ذلك العرض الميت الجاف الذي لا يمس القلب البشري ولا يؤثر فيه ولا يوحي إليه . . إنما هو يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون ، ومجالي الخلق ، ولمسات الفطرة ، وبديهيات الإدراك . في جمال وروعة واتساق .
والمشهد الهائل الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه ، تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه الآلاء بالقياس إلى الإنسان : خط السماوات والأرض . يتبعه خط الماء النازل من السماء والثمرات النابتة من الأرض بهذا الماء . فخط البحر تجري فيه الفلك والأنهار تجري بالأرزاق . . ثم تعود الريشة إلى لوحة السماء بخط جديد . خط الشمس والقمر . فخط آخر في لوحة الأرض متصل بالشمس والقمر : خط الليل والنهار .
ثم الخط الشامل الأخير الذي يلون الصفحة كلها ويظللها :
( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . .
إنه الإعجاز الذي تتناسق فيه كل لمسة وكل خط وكل لون وكل ظل . في مشهد الكون ومعرض الآلاء أفكل هذا مسخر للإنسان ؟ أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير ؟ السماوات ينزل منها الماء ، والأرض تتلقاه ، والثمرات تخرج من بينهما . والبحر تجري فيه الفلك بأمر الله مسخرة . والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان . والشمس والقمر مسخران دائبان لا يفتران . والليل والنهار يتعاقبان . . أفكل أولئك للإنسان ؟ ثم لا يشكر ولا يذكر ؟
الله الذي خلق السماوات والأرض . .
وبعد ذلك يجعلون لله أندادا ، فكيف يكون الظلم في التقدير ، والظلم في عبادة خلق من خلقه في السماوات أو في الأرض ؟
( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) . .
والزرع مورد الرزق الأول ، ومصدر النعمة الظاهر . والمطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر الله عليها هذا الكون ، ويتبع الناموس الذي يسمح بنزول المطر وإنبات الزرع وخروج الثمر ، وموافقة هذا كله للإنسان . وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على هذا الكون كله لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة وإمدادها بعوامل الحياة من تربة وماء وأشعة وهواء . . والناس يسمعون كلمة " الرزق " فلا يتبادر إلى أذهانهم إلا صورة الكسب للمال . ولكن مدلول " الرزق " أوسع من ذلك كثيرا ، وأعمق من ذلك كثيرا . . إن أقل " رزق " يرزقه الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام هذا الكون وفق ناموس يوفر مئات الآلاف من الموافقات المتواكبة المتناسقة التي لولاها لم يكن لهذا الكائن ابتداء وجود ؛ ولم تكن له بعد وجوده حياة وامتداد . ويكفي ما ذكر في هذه الآيات من تسخير الأجرام والظواهر ليدرك الإنسان كيف هو مكفول محمول بيد الله . .
( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ) . .
بما أودع في العناصر من خصائص تجري الفلك على سطح الماء ؛ وبما أودع في الإنسان من خصائص يدرك بها ناموس الأشياء ؛ وكلها مسخرة بأمر الله للإنسان .
تجري فتجري الحياة ، وتفيض فيفيض الخير ، وتحمل ما تحمل في جوفها من أسماك وأعشاب وخيرات . . كلها للإنسان ولما يستخدمه الإنسان من طير وحيوان . .
{ الله الذي خلق السماوات والأرض } مبتدأ وخبره { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس مفعول لأخرج و{ من الثمرات } بيان له وحال منه ويحتمل عكس ذلك ويجوز أن يراد به المصدر فينتصب بالعلة ، أو المصدر لأن أخرج في معنى رزق . { وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره } بمشيئته إلى حيث توجهتم . { وسخّر لكم الأنهار } فجعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم وقيل تسخير هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها .
استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة { وجعلوا لله أنداداً } الآية . وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوات } الآية . وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروها ، وبالضد حال الذين شكروا عليها ، وليزداد الشاكرون شكراً . فالمقصود الأول هو الاستدلال على أهل الجاهلية ، كما يدل عليه تعقيبه بقوله : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجْنُبْنِي وبني أن نعبد الأصنام } [ سورة إبراهيم : 35 ] . فجيء في هذه الآية بِنِعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها محتاجة للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى .
وافتتُح الكلام باسم الموجِد لأن تعيينه هو الغرض الأهم . وأخبر عنه بالموصول لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له ، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئاً ، كما قال : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ سورة لقمان : 25 ] ، فخلق السماوات والأرض دليل على إلهية خالقهما وتمهيد للنعم المودعة فيهما ؛ فإنزال الماء من السماء إلى الأرض ، وإخراج الثمرات من الأرض ، والبحارُ والأنهارُ من الأرض . والشمس والقمر من السماء ، والليل والنهار من السماء ومن الأرض ، وقد مضى بيان هذه النعم في آيات مضت .
والرزق القوت . والتسخير : حقيقته التذليل والتطويع ، وهو مجاز في جعل الشيء قابلاً لتصرف غيره فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } في سورة الأعراف ( 54 ) . وقوله : { لتجري في البحر } هو علة تسخير صنعها .
ومعنى تسخير الفلك : تسخير ذاتها بإلهام البشر لصنعها وشكلها بكيفية تجري في البحر بدون مانع .
وقوله : { بأمره } متعلق ب { تجري } .
والأمر هنا الإذن ، أي تيسير جريها في البحر ، وذلك بكف العواصف عنها وبإعانتها بالريح الرخاء ، وهذا كقوله : { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره } [ سورة الحج : 65 ] . وعبر عن هذا الأمر بالنعمة في قوله : { ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله } [ سورة لقمان : 31 ] ، وقد بينته آية { ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الرياح فيظللن رواكد على ظهره } الآية [ سورة الشورى : 32 33 ] .
وتسخير الأنهار : خلقها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان وقراره في بعض المنخفضات فيستقى منه من تمر عليه وينزل على ضفافه حيث تستقر مياهه ، وخلق بعضها مستمرة القرار كالدجلة والفرات والنيل للشرب ولسير السفن فيها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء}، يعني المطر، {فأخرج به}، يعني بالمطر، {من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك}، يعني السفن، {لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله الذي أنشأ السموات والأرض من غير شيء أيها الناس، وأنزل من السماء غيثا أحيا به الشجر والزرع، فأثمرت رزقا لكم تأكلونه، "وسَخّرَ لَكُمُ الفُلْكَ "وهي السفن "لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بأمْرِهِ" لكم تركبونها، وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إلى بلد "وسَخّرَ لَكُمُ الأنهَارَ" ماؤُها شراب لكم، يقول تعالى ذكره: الذي يستحقّ عليكم العبادة وإخلاص الطاعة له، مَنْ هذه صفته، لا من لا يقدر على ضرّ ولا نفع لنفسه ولا لغيره من أوثانكم أيها المشركون وآلهتكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
دلالة أن تدبير الله متسق محيط بجميع ما في السماوات والأرض، وعلمه محيط بجميع الخلائق حين ذكر: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} يعني البشر. جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بُعد ما بينهما، دل أنه عن تدبير فعل هذا وعلم، وأنه تدبير واحد عليم قدير. ثم ما ذكر من تسخير السماوات والأرض مع شدة السماء وصلابتها وغلظ الأرض وكثافتها، وتسخير البحر مع أهواله وأمواجه وتسخير الأنهار الجارية وتسخير الشمس والقمر والليل والنهار لهذا البشر في ذلك كله وجهان:
أحدهما: يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم من المنافع التي جعل لهم في تسخير هذه الأشياء التي ذكر لهم على جهل هذه الأشياء أنهن مسخرات لغيرهم ليستأدي بذلك شكرها.
والثاني: يذكر سلطانه وقدرته حين سخر هذه الأشياء مع شدتها وصلابتها وغلظها وأهوالها. ومن قدر على تسخير ما ذكر فهو قادر على البعث والإحياء بعد الموت. ويحتمل ما ذكر من تسخير الأشياء التي ذكر أمرين:
أحدهما: أنه أنشأ هذه الأشياء مسخرة مذللة لنا.
والثاني: أنه سخر لنا، أي علمنا من الأسباب والحيل التي تتهيأ لنا الانتفاع بها والتسخير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِنَ الثمرات} بيان للرزق، أي: أخرج به رزقاً هو ثمرات...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الله الذي خلق السماوات...}، تذكير بآلاء الله، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر لتقوم الحجة من جهتين...
{من الثمرات} يجوز أن تكون {من} للتبعيض، فيكون المراد بعض جني الأشجار، ويسقط ما كان منها سماً أو مجرداً للمضرات، ويجوز أن تكون {من} لبيان الجنس، كأنه قال: فأخرج به رزقاً لكم من الثمرات... وفي «تسخير الفلك» ينطوي تسخير البحر وتسخير الرياح، وأما «تسخير الأنهار» فتفجرها في كل بلد، وانقيادها للسقي وسائر المنافع...
اعلم أنه لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وبصفاته، وفي حصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة، لا جرم ختم الله تعالى وصف أحوال السعداء والأشقياء بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته، وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل:
وثانيها: خلق الأرض، وإليهما الإشارة بقوله تعالى: {الله الذي خلق السموات والأرض}.
وثالثها: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}.
ورابعها: قوله: {وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره}
وخامسها: قوله: {وسخر لكم الأنهار}.
وسادسها وسابعها: قوله: {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين}.
وثامنها وتاسعها: قوله: {وسخر لكم الليل والنهار}.
وعاشرها: قوله: {وآتاكم من كل ما سألتموه}... ثم إنه تعالى بدأ بذكر خلق السموات والأرض... لأنهما هما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعد ذلك، فإنه قال بعده: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}... [فــ] لولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فظهر أنه لا بد من وجودهما حتى يحصل هذا المقصود وهذا المطلوب... [ثم] إنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيما لشأنه، ومنهم من حمله على ظاهر قوله: {إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه...
{وسخر لكم الأنهار}... اعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات، لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات، وأيضا ماء البحر لا يصلح للشرب، والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نفى جميع الأسباب النافعة في الدنيا في ذلك اليوم، كان كأنه قيل: فمن الحكم فيه حتى أنه يسير سيرة لا نعرفها؟ فقيل: {الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء؛ ثم أتبعه بصفات تدل على ما دعا إليه الرسل من وحدانيته وما أخبروا به من قدرته على كل شيء فلا يقدر أحد على مغالبته، وعلى المعاد وعلى غناه فلا يبايع، فقال: {الذي خلق السماوات والأرض} وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً، ثم عقبه بأدل الأمور على الإعادة مع ما فيه من عظيم المنة بأن به الحياة، فقال: {وأنزل من السماء ماء} ولما كان ذلك سبب النمو قال: {فأخرج به} أي بالماء الذي جعل منه كل شيء حي {من الثمرات} أي الشجرية و غيرها {رزقاً لكم} بعد يبس الأرض وجفاف نباتها، وليس ذلك بدون إحياء الموتى؛ ثم أتبعه ما ادخره في الأرض من مياه البحار والأنهار، وذكر أعم ما يظهر من البحار فقال: {وسخر لكم الفلك} وعلل ذلك بقوله: {لتجري في البحر} ولما كان ذلك أمراً باهراً للعقل، بين عظمته بقوله: {بأمره} ولما كانت الأنهار من النعم الكبار بعد نعمة البحار، قال: {وسخر لكم الأنهار}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
لمّا ذكر أحوالَ الكافرين لنعم الله تعالى وأمرَ المؤمنين بإقامة مراسم الطاعةِ شكراً لنعمه شرَع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنامِ، والمثابرةِ على الشكر والطاعة من النعم العِظام والمنن الجِسام حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المُخلّين بها الواضعين موضعَها الكفرَ والمعاصيَ، وفي جعل المبتدأ الاسمَ الجليلَ والخبرَ الاسمَ الموصولَ بتلك الأفاعيلِ العظيمة من خلق هذه الأجرامِ العظام وإنزال الأمطارِ وإخراجِ الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبةِ ما لا يخفى من تربية المهابةِ والدِلالة على قوة السلطان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا يفتح كتاب الكون على مصراعيه فتنطق سطوره الهائلة بنعم الله التي لا تحصى. وتتوالى صفحاته الضخمة الفسيحة بألوان هذه النعم على مد البصر: السماوات والأرض. الشمس والقمر. الليل والنهار. الماء النازل من السماء والثمار النابتة من الأرض. البحر تجري فيه الفلك، والأنهار تجري بالأرزاق.. هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار، ولكن البشر في جاهليتهم لا ينظرون ولا يقرأون ولا يتدبرون ولا يشكرون: إن الإنسان لظلوم كفار. يبدل نعمة الله كفرا، ويجعل لله أندادا، وهو الخالق الرازق المسخر الكون كله لهذا الإنسان:... إن من معجزات هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد. ويحول كل ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء.. وهكذا يستحيل الكون بكل ما فيه وبكل من فيه معرضا لآيات الله، تبدع فيه يد القدرة، وتتجلى آثارها في كل مشهد فيه ومنظر، وفي كل صورة فيه وظل.. إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة "ميتافيزيقية "ذلك العرض الميت الجاف الذي لا يمس القلب البشري ولا يؤثر فيه ولا يوحي إليه.. إنما هو يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون، ومجالي الخلق، ولمسات الفطرة، وبديهيات الإدراك. في جمال وروعة واتساق. والمشهد الهائل الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه، تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه الآلاء بالقياس إلى الإنسان: خط السماوات والأرض. يتبعه خط الماء النازل من السماء والثمرات النابتة من الأرض بهذا الماء. فخط البحر تجري فيه الفلك والأنهار تجري بالأرزاق.. ثم تعود الريشة إلى لوحة السماء بخط جديد. خط الشمس والقمر. فخط آخر في لوحة الأرض متصل بالشمس والقمر: خط الليل والنهار. ثم الخط الشامل الأخير الذي يلون الصفحة كلها ويظللها: (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة {وجعلوا لله أنداداً} الآية. وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوات} الآية. وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروها، وبالضد حال الذين شكروا عليها، وليزداد الشاكرون شكراً. فالمقصود الأول هو الاستدلال على أهل الجاهلية، كما يدل عليه تعقيبه بقوله: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجْنُبْنِي وبني أن نعبد الأصنام} [سورة إبراهيم: 35]. فجيء في هذه الآية بِنِعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها محتاجة للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى. وافتتُح الكلام باسم الموجِد لأن تعيينه هو الغرض الأهم. وأخبر عنه بالموصول لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئاً، كما قال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [سورة لقمان: 25]...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم استعرض كتاب الله جملة من بدائع الصنع الإلهي في العالم العلوي والعالم السفلي، مذكرا بما انطوت عليه من نعم كبرى سخرها للإنسان، داعيا إياه إلى التأمل في عجائبها وتدبر آياتها، إذ كلها دلائل ناطقة بوجوده وقدرته، وعلمه وحكمته، ومظاهر بارزة لإحسانه ورحمته...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ينفتح التصوّر الإنساني على آيات عظمة الله في الكون، ومواقع قدرته، وحركة نعمته، من خلال ما يشاهده الإنسان ببصره، ويعيشه في وجوده، ويلتقي به في كل مفردات حياته، وذلك بانفتاحه على التربية القرآنية التي تدعو الإنسان إلى الالتقاء بالله في طاعته، من خلال تربية الإحساس بعظمة الله في نفسه، لتتحرك الطاعة من أعماق الذات، لا من خارجها، ولتلتقي الحركة السائرة نحو الهدف بالقاعدة الروحية في خط مستقيم لا التواء فيه ولا انحراف. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} بما فيها من أكوان وخلائق ونظمٍ وأوضاع تنطلق فيها النعمة من مواقع القدرة، {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} أودعه على سطح الأرض وفي عمقها، فأبدع فيها قدرة الخصب والنموّ، وشق داخل الحبة والنواة سرّ الثمرة والشجرة، {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ}، تأكلونه أو تلبسونه أو تستمتعون به، ولولا ذلك لما أمكن للحياة أن تنمو في داخل أجسادكم، وللقوّة أن تتحرك في وجودكم، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْريَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} بما أودعه في أجواء البحر من نُظُم وأوضاعٍ تسمح للسفن أن تبلغ أهدافها من خلاله، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} التي تتدفق من الينابيع الكامنة في أعماق الأرض، ومن الثلوج المتفجّرة من قمم الجبال، فتتحول إلى حركةٍ متدفقةٍ تبعث الخير والخصب والنماء في كل أرضٍ تمر عليها، وتشكل للإنسان وللحيوان شريان الحياة الذي تنطلق منه وتتحرك من خلاله...