اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ} (32)

قوله تعالى : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } الآية لما وصف أحوال السعداء ، وأحوال الأشقياء ، وكانت العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله -تعالى- بذاته وصفاته ، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله -تعالى- هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع ، وكمل عمله وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل :

أولها : خلق السماوات .

وثانيها : خلق الأرض .

وثالثها : قوله : { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } .

" مِنَ السَّماءِ " يجوز أني تعلق ب " أنْزلَ " ، و " من " لابتداءِ الغايةِ ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من " مَاءٍ " ؛ لأنه صفته في الأصل ، وكذلك " مِنَ الثَّمراتِ " في الوجهين .

وجوَّز الزمخشري{[19295]} وابن عطية{[19296]} : أن تكون : " مِنْ " لبيان الجنس ، أي : ورزقاً هو الثمرات .

وردت عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم ، وقد يجاب عنهما ؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب ، وقد تقدم ذلك في البقرة [ البقرة 23 ، 25 ] .

ورابعها : قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ } يجوز أن يتعلق " بأمْرهِ " ب " تَجْرِي " أي : بسببه ، أو بمحذوف على أنَّها للحال ، أي : ملتبسة به .

وخامسها : قوله { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } .

وسادسها ، وسابعها : { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ } دائبين حال من " الشمسِ والقَمرِ " ، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ .

وثامنها وتاسعها : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار } .

وعاشرها : قوله تعالى : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } العامة على إضافة : " كُلِّ " إلى ما . وفي " مِنْ " قولان :

أحدهما : أنَّها زائدة في المفعول الثاني ، أي : كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ .

والثاني : أن تكون تبعيضية ، أي : آتاكم بعض جميع ما سألمتوه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف ، تقديره : وآتاكم من كل ما سألتموه ، وهو رأي سيبويه و " مَا " يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والمصدر واقع موقع المفعول ، أي : مسئولكم ، فإن كانت مصدرية فالضمير في : " سَألتُموهُ " عائد على الله -تعالى- وإن كانت موصولة ، أو موصوفة كان عائداً عليها ، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى ، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف ، لأنه إما أن يقدر متصلاً سألتموهوه ، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه ، و كلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .

وقرأ ابن عباس ، ومحمد بن علي ، وجعفر{[19297]} بن محمد ، والحسن ، والضحاك ، وعمرو بن فائد وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع -رضي الله عنهم- في رواية : " مِنْ كُلِّ " منونة ، وفي " مَا " على هذه القراءة وجهان :

أحدهما : أنَّها نافية ، وبه بدأ الزمخشري ، فقال : و " مَا سَألتْمُوهُ " نفي ومحله النَّصب على الحال ، أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائلين .

قال شهاب الدين{[19298]} : ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله : " مِنْ كُلِّ " كقوله تعالى : { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 16 ] .

والثاني : أنها موصولة بمعنى الذي ، وهي المفعول الثاني ل " آتَاكُمْ " .

وهذا التخريج الثاني أولى ؛ لأنَّ في الأول منافاة في الظاهر لقراءة العامة .

قال أبو حيَّان{[19299]} : ِ " ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة ، وبين تلك قال : ويجوز أن تكون : " مَا " موصولة على : وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به ، فكأنكم طلبتموه ، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول : " مَا سَألتْمُوهُ " بمعنى ما احتجتم إليه " .

فصل

اعلم أنَّه -تعالى- بدأ بذكر خلق السماوات ، والأرض ، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده .

ثمَّ قال : { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها ، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه ، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود .

واعلم أنَّ الماء إنمّا ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض ، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو ؛ وقيل : ينزل من السماء إلى السحاب ، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى : { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } .

قال أبو مسلم -رحمه الله- : لفظ " الثَّمراتِ " يقع في الأغلب على ما يحصل من الأشجار ، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات ، كقوله تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] .

ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ } [ إبراهيم : 32 ] نظيره { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } .

واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك ؛ لأنَّ الله -تعالى- خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض ، وبالعكس ، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ ، وهي الجمال ، أو بسفن البحر ، وهي الفلك .

فإن قيل : ما معنى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك } منع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ ؟ .

فالجوابُ : أنَّ فعل العبد خلقُ الله -تعالى- عند أهل السُّنَّة ، فلا سؤال .

وأمَّا عند المعتزلة : فلأنه -تعالى- خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد ، وسائر الآلات ، وعرف العباد صنعه التركيب ، وخلق الرياح ، وخلق الحركات القوية فيها ، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها ، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن .

وأضاف التسخير إلى أمره ؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل ، وإنَّما يقال : أمر ، قال -تعالى- : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] وسخر الفلك مجازاً ؛ لأنها جمادات ، ولما كانت تجري على وجه الماء ، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر .

ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } ، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات ، فأنعم الله -تعالى- على الخلق بتفجير الأنهار ، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات ، وأيضاً : فماء البحر لا يصلحُ للشرب ، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار .


[19295]:ينظر: الكشاف 2/557.
[19296]:ينظر: المحرر الوجيز 3/339.
[19297]:ينظر: المحرر الوجيز 3/340، والبحر المحيط 5/416 والدر المصون 4/272.
[19298]:ينظر: الدر المصون 4/272.
[19299]:ينظر: البحر المحيط 5/416.