إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ} (32)

{ الله } مبتدأٌ خبرُه { الذي خَلَقَ السموات } وما فيها من الأجرام العلوية { والأرض } وما فيها من أنواع المخلوقاتِ . لمّا ذكر أحوالَ الكافرين لنعم الله تعالى وأمرَ المؤمنين بإقامة مراسم الطاعةِ شكراً لنعمه شرَع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنامِ ، والمثابرةِ على الشكر والطاعة من النعم العِظام والمنن الجِسام حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المُخلّين بها الواضعين موضعَها الكفرَ والمعاصيَ ، وفي جعل المبتدأ الاسمَ الجليلَ والخبرَ الاسمَ الموصولَ بتلك الأفاعيلِ العظيمة من خلق هذه الأجرامِ العظام وإنزال الأمطارِ وإخراجِ الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبةِ ما لا يخفى من تربية المهابةِ والدِلالة على قوة السلطان { وَأَنزَلَ مِنَ السماء } أي السحابِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ ، أو من الفَلَك فإن المطر منه يبتدئ إلى السحاب ومنه إلى الأرضِ على ما دلت عليه ظواهرُ النصوص أو من أسباب سماويةٍ تثير الأجزاءَ الرطبةَ من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحاباً ماطراً ، وأياً ما كان فمن ابتدائيةٌ { مَاء } أي نوعاً منه هو المطرُ ، وتقديمُ المجرورِ على المنصوب إما باعتبار كونِه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك : أعطاه السلطانُ من خزانته مالاً ، أو لما مرّ مراراً من التشويق إلى المؤخّر { فَأَخْرَجَ بِهِ } بذلك الماء { مِنَ الثمرات } الفائتة للحصر ، إما لأن صيغَ الجموعِ يتعاور بعضُها موضعَ بعض ، وإما لأنه أريد بمفردها جماعةُ الثمرة التي في قولك : أدركت ثمرةُ بستانِ فلان { رِزْقاً لكُمْ } تعيشون به وهو بمعنى المرزوق شاملٌ للمطعوم والملبوس مفعولٌ لأخرج ومن للتبيين كقولك : أنفقت من الدراهم ألفاً ، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه ، أو مصدراً من أخرج بمعنى رزَق ، أو للتبعيض بدليل قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } [ فاطر ، الآية 27 ] كأنه قيل : أنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ولا أخرج بالمطر كلَّ الثمار ولا جعل كلَّ الرزق ثمراً ، وخروجُ الثمرات وإن كان بمشيئته عز وجل وقدرتِه لكن جرت عادتُه تعالى بإفاضة صورِها وكيفياتها على المواد الممتزجةِ من الماء والتراب وأودع في الماء قوةً فاعلةً وفي الأرض قوةً قابلةً يتولد من اجتماعهما أنواعُ الثمار ، وهو قادرٌ على إيجاد الأشياء بلا أسباب [ ولا ] موادَّ كما أبدع نفوسَ الأسباب كذلك لما أن له تعالى في إنشائها مدرّجاً من طَور إلى طور صنائعَ وحِكماً يجدّد فيها لأولي الأبصار عِبَراً وسكوناً إلى عظيم قدرتِه ليس ذلك في إبداعها دفعةً ، وقوله : لكم ، صفةٌ لقوله : رزقاً ، إن أريد به المرزوقُ ، ومفعولٌ به إن أريد به المصدرُ كأنه قيل : رزقاٍ إياكم . { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك } بأن أقدركم على صنعتها واستعمالِها بما ألهمكم كيفيةَ ذلك { لِتَجْرِىَ في البحر } جرياً تابعاً لإرادتكم { بِأَمْرِهِ } بمشيئته التي نيط بها كلُّ شيء ، وتخصيصُه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمالِ واستعمالِ الآلاتِ كما يتراءى من ظاهر الحال { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } إن أريد بها المياهُ العظيمة الجاريةُ في الأنهار العظامِ كما يومىء إليه ذكرُها عند البحر فتسخيرُها جعلُها مُعدّةً لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداولَ يسقوُن منها زروعَهم وجِنانَهم وما أشبه ذلك ، وإن أريد بها نفسُ الأنهار فتسخيرُها تيسيرُها لهم .