قال الله ، توبيخا له وتكذيبا : { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } أي : أحاط علمه بالغيب ، حتى علم ما يكون ، وأن من جملة ما يكون ، أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا ؟ { أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } أنه نائل ما قاله ، أي : لم يكن شيء من ذلك ، فعلم أنه متقول ، قائل ما لا علم له به . وهذا التقسيم والترديد ، في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة ؛ فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند الله في الآخرة ، لا يخلو : إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة ، وقد علم أن هذا لله وحده ، فلا أحد يعلم شيئا من المستقبلات الغيبية ، إلا من أطلعه الله عليه من رسله .
وإما أن يكون متخذا عهدا عند الله ، بالإيمان به ، واتباع رسله ، الذين عهد الله لأهله ، وأوزع أنهم أهل الآخرة ، والناجون الفائزون . فإذا انتفى هذان الأمران ، علم بذلك بطلان الدعوى ، ولهذا قال تعالى : { كَلَّا }
{ أطلع الغيب } أقد بلغ من عظمة شأنه إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا وتألى عليه . { أم اتخذ عند الرحمان عهدا } أو اتخذ من عالم الغيب عهدا بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين . وقيل العهد كلمة الشهادة والعمل الصالح فإن وعد الله بالثواب عليهما كالعهد عليه .
وقوله { أطلع الغيب } توقيف ، والألف للاستفهام ، وحذفت ألف الوصل للاستغاء عنها{[8035]} ، واتخاذ العهد معناه بالإيمان والأعمال الصالحة .
جملة { أطلّع الغيب } جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدّين من المال الذي سيجده حين يبعث ، فالاستفهام في قوله { أطلع الغيب } إنكاري وتعجيبي .
و { أطّلع } افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء ، ولذلك يقال لمكان الطلوع مطْلَع بالتخفيف ومُطّلع بالتشديد . ومن أجل هذا أطلق الاطلاع على الإشراف على الشيء ، لأنّ الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من عُلّو ، فالأصل أن فعل ( اطّلع ) قاصر غير محتاج إلى التعدية ، قال تعالى : { قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم } [ الصافات : 54 ، 55 ] ، فإذا ضُمن { اطّلع معنى أشرَف عُدي بحرف الاستعلاء كقوله تعالى : { لو اطَلعتَ عليهم لولّيتَ منهم فراراً } وتقدّم إجمالاً في سورة الكهف ( 18 ) .
فانتصب الغيب } في هذه الآية على المفعولية لا على نزع الخافض كما توهمه بعض المفسرين . قال في « الكشاف » : « ولاختيار هذه الكلمة شأنٌ ، يقول : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب » اهـ .
فالغيبُ : هو ما غاب عن الأبصار .
والمعنى : أأشرف على عالم الغيب فرأى مالاً وولداً معَدّيْننِ له حين يأتي يوم القيامة أو فرأى ماله وولده صائرين معه في الآخرة لأنه لما قال فسيكون لي مال وولد عنى أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ أم عهد الله إليه بأنّه معطيه ذلك فأيقن بحصوله ، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما أعد له يوم القيامة إلا أحد هذين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته ، وإما إخبار الله بأنه يعطيه إياه .
ومتعلّق العهد محذوف يدلّ عليه السياق . تقديره : بأن يعطيه مالاً وولداً .
و { عند } ظرف مكان ، وهو استعارة بالكناية بتشبيه الوعد بصحيفة مكتوبة بها تعاهُد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عند الله ، لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في الكعبة . وقال الحارث بن حلزة :
حذر الجور والتطاخي وهل ينقض *** مـا في المهارق الأهـــواءُ
ولعلّ في تعقيبه بقوله { سنكتب ما يقول } إشارة إلى هذا المعنى بطريق مراعاة النظير .
واختير هنا من أسمائه { الرحمن } ، لأن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر ، ولأن في ذكر هذا الاسم توركاً على المشركين الذين قالوا { وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"أطّلَعَ الغَيْبَ"؟ يقول عزّ ذكره: أعلِمَ هذا القائل هذا القول علم الغيب، فعلم أن له في الآخرة مالاً وولدا باطلاعه على علم ما غاب عنه، "أمِ اتّخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا "يقول: أم آمن بالله وعمل بما أمر به، وانتهى عما نهاه عنه، فكان له بذلك عند الله عهدا أن يؤتيه ما يقول من المال والولد،...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} قال ابن عباس: أنظر في اللوح المحفوظ؟ وقال مجاهد: أعلم علم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟ {أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} يعني أم قال: لا إله إلا الله، وقال قتادة: يعني عملاً صالحاً قدّمه، وقال الكلبي: عهد إليه أنّه يُدخله الجنة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ويقولون: مرّ مطلعاً لذلك الأمر، أي عالياً له مالكاً له، ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار. والمعنى: أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ما ادعاه لا علم له به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما، أنكر عليه قوله ذلك بقوله: {أطلع الغيب} الذي هو غائب عن كل مخلوق، فهو في بعده عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع عليه، وتفرد به الواحد القهار {أم اتخذ} أي بغاية جهده {عند الرحمن} العام الرحمة بالإنعام على الطائع والانتقام من العاصي ثواباً للطائع {عهداً} عاهده عليه بأنه يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها له على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا التقسيم والترديد، في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة؛ فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند الله في الآخرة، لا يخلو: إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة، وقد علم أن هذا لله وحده، فلا أحد يعلم شيئا من المستقبلات الغيبية، إلا من أطلعه الله عليه من رسله. وإما أن يكون متخذا عهدا عند الله، بالإيمان به، واتباع رسله، الذين عهد الله لأهله، وأوزع أنهم أهل الآخرة، والناجون الفائزون. فإذا انتفى هذان الأمران، علم بذلك بطلان الدعوى، ولهذا قال تعالى: {كَلَّا}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {أطلّع الغيب} جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدّين من المال الذي سيجده حين يبعث، فالاستفهام في قوله {أطلع الغيب} إنكاري وتعجيبي. و {أطّلع} افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء، ولذلك يقال لمكان الطلوع مطْلَع بالتخفيف ومُطّلع بالتشديد. ومن أجل هذا أطلق الاطلاع على الإشراف على الشيء، لأنّ الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من عُلّو، فالأصل أن فعل (اطّلع) قاصر غير محتاج إلى التعدية، قال تعالى: {قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم} [الصافات: 54، 55]، فإذا ضُمن {اطّلع معنى أشرَف عُدي بحرف الاستعلاء كقوله تعالى: {لو اطَلعتَ عليهم لولّيتَ منهم فراراً} وتقدّم إجمالاً في سورة الكهف (18). فانتصب الغيب} في هذه الآية على المفعولية لا على نزع الخافض كما توهمه بعض المفسرين... فالغيبُ: هو ما غاب عن الأبصار. والمعنى: أأشرف على عالم الغيب فرأى مالاً وولداً معَدّيْننِ له حين يأتي يوم القيامة أو فرأى ماله وولده صائرين معه في الآخرة لأنه لما قال فسيكون لي مال وولد عنى أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ أم عهد الله إليه بأنّه معطيه ذلك فأيقن بحصوله، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما أعد له يوم القيامة إلا أحد هذين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته، وإما إخبار الله بأنه يعطيه إياه. ومتعلّق العهد محذوف يدلّ عليه السياق. تقديره: بأن يعطيه مالاً وولداً. و {عند} ظرف مكان، وهو استعارة بالكناية بتشبيه الوعد بصحيفة مكتوبة بها تعاهُد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عند الله، لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في الكعبة... ولعلّ في تعقيبه بقوله {سنكتب ما يقول} إشارة إلى هذا المعنى بطريق مراعاة النظير. واختير هنا من أسمائه {الرحمن}، لأن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر، ولأن في ذكر هذا الاسم توركاً على المشركين الذين قالوا {وما الرحمن} [الفرقان: 60]...
يعني: أقلت هذا القول متطوعاً به من عند نفسك، أم اطلعت على الغيب، فعرفت منه ما سيكون لك في الآخرة: {أم اتخذ عند الرحمن عهداً} أي: أعطاه الله تعالى عهداً بأن يكون له في الآخرة كما له في الدنيا، فإما هذه وإما هذه، فأيهما توافرت لك حتى تجزم بهذا القول؟ وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين "35 "ما لكم كيف تحكمون "36" أم لكم كتاب فيه تدرسون "37" إن لكم فيه لما تخيرون "38" أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون "39 "} (سورة القلم): والمراد: من يضمن لهم هذا الذي يدعونه؟فمن هؤلاء الذين لهم عهد من الله تعالى ألا يدخلهم النار؟ والعهد: الشيء الموثق بين اثنين، والعهد إن كان بين الناس فهو عهد غير موثوق به، فقد ينفذ أو لا ينفذ؛ لأن الإنسان ابن أغيار، ويمكن أن تحول الظروف بينه وبين ما وعد به، أما إن كان العهد من الله تعالى المالك لكل شيء، وليست هناك قوة تبطل إرادته تعالى، فهو العهد الحق الموثوق به، والذي لا يتخلف أبداً. فحين تعاهد ربك على الإيمان فإنك لا تضمن ما يطرأ عليك من الأغيار، أما حين يعاهدك ربك على الجزاء، فثق أنه نافذ لا يخلف.أي: حباً ومودة في قلوبهم، ومادام أن الله أعطاه هذا العهد، فهو نفاذ محقق. واختار هنا اسم الرحمن لما فيه من صفة الرحمانية التي تناسب المعونة على الوفاء.