{ وَقَالَتِ } أم موسى { لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي : اذهبي [ فقصي الأثر عن أخيك وابحثي عنه من غير أن يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه ] { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أي : أبصرته على وجه ، كأنها مارة لا قصد لها فيه .
وهذا من تمام الحزم والحذر ، فإنها لو أبصرته ، وجاءت إليهم قاصدة ، لظنوا بها أنها هي التي ألقته ، فربما عزموا على ذبحه ، عقوبة لأهله .
ثم قالت لأخت موسى طمعاً منها وطلباً ، { قصيه } ، والقص طلب الأثر ، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة تبحث مختفية بذلك فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يطلبون به امرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع ، و { عن جنب } أي عن ناحية من غير قصد ولا قرب يشعر لها به ، يقال فيه جنب وجناب وجنابة ومن جناب قول الشاعر : [ الطويل ]
لقد ذكرتني عن جناب حمامة . . . بعسفان أهلي فالفؤاد حزين{[9118]}
ومن جنابة قول الأعشى : [ الطويل ]
أتيت حريثاً زائراً عن جنابة . . . فكان حريث عن عطائيَ جامدا{[9119]}
قال الفقيه الإمام القاضي : وكأن معنى هذه الألفاظ عن مكان جنب أي عن بعد ومعنى الآية عن بعد لم تدن منه فيشعر لها ، وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن عبدة : [ الطويل ]
فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابة . . . فإني امرؤ وسط القباب غريب{[9120]}
وقرأ قتادة «عن جَنْب » بفتح الجيم وسكون النون وهي قراءة الحسن والأعرج ، وقرأ «عن جانب » النعمان بن سالم ، وقرأ الجمهور «عن جُنُب » بضم الجيم والنون ، وقوله { وهم لا يشعرون } ، معناه أنها أخته وأنها من جملة لطائف الله تعالى له ولأمه حسب الوعد الذي أوحي إليها ، ويقال : بصرت الشيء وأبصرته بمعنى واحد متقارب ، قال المهدوي : وقيل { عن جنب } معناه عن شوق وهي لغة لجذام يقولون جنبت إلى لقائك أي اشتقت إليه ، وقال قتادة : معنى { عن جنب } أنها تنظر إليه كأنها لا تريده .
ظاهر ترتيب الأخبار أنها على وفق ترتيب مضامينها في الحصول ، وهذا يرجح أن يكون حصول مضمون { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } [ القصص : 10 ] سابقاً على حصول مضمون { وقالت لأخته قصيه } ، أي قالت لأخته ذلك بعد أن اطمأن قلبها لما ألهمته من إلقائه في اليم ، أي لما ألقته في اليم قالت لأخته : انظري أين يلقيه اليم ومتى يستخرج منه ، وقد علمت أن اليم لا يلقيه بعيداً عنها لأن ذلك مقتضى وعد الله برده إليها .
وأخت موسى اسمها مريم ، وقد مضى ذكر القصة في سورة طه .
والقصّ : اتباع الأثر ، استعمل في تتبع الذات بالنظر فلذلك عُدي إلى ضمير موسى دون ذكر الأثر . وقد تقدم في سورة الكهف ( 64 ) عند قوله { فارتدا على ءاثارهما قصصاً }
وبصُر بالشيء صار ذا بصر به ، أي باصراً له فهو يفيد قوة الإبصار ، أي قوة استعمال حاسة البصر وهو التحديق إلى المبصر ، ف ( بصر ) أشد من ( أبصر ) . فالباء الداخلة على مفعوله باء السببية للدلالة على شدة العناية برؤية المرئي حتى كأنه صار باصراً بسببه . ولك أن تجعل الباء زائدة لتأكيد الفعل فتفيد زيادة مبالغة في معنى الفعل . وتقدم في قوله تعالى { قال بصُرتُ بما لم يبصروا به } في سورة طه ( 96 ) .
والجُنُب : بضمتين البعيد . وهو صفة لموصوف يعرف من المقام ، أي عن مكان جنب .
و { عن } للمجاوزة والمجرور في موضع حال من ضمير ( بصرت ) لأن المجاوزة هنا من أحوال أخته لا من صفات المكان .
و { هم } أي آل فرعون حين التقطوه لا يشعرون بأن أخته تراقب أحواله وذلك من حذق أخته في كيفية مراقبته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالت} أم موسى {لأخته} يعني: أخت موسى... {قصيه} يعني: قصي أثره في البحر، وهو في التابوت يجري في الماء، حتى تعلمي علمه من يأخذه {فبصرت به عن جنب} يعني: كأنها مجانبة له بعيدا من أن ترقبه... {وهم لا يشعرون} أنها ترقبه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقالَتْ" أمّ موسى لأخت موسى حين ألقته في اليم "قُصّيهِ "يقول: قصي أثر موسى، اتبعي أثره... فقصت أخت موسى أثره، "فبصرت به عن جُنُب"، يقول: فبصرت بموسى عن بُعد لم تدن منه ولم تقرب، لئلا يعلم أنها منه بسبيل... وقوله: "وَهُمْ لا يَشْعَرُونَ" يقول: وقوم فرعون لا يشعرون بأخت موسى أنها أخته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قالت لأخت موسى طمعاً منها وطلباً، {قصيه}، والقص: طلب الأثر، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة تبحث مختفية بذلك فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يطلبون به امرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي: أبصرته على وجه، كأنها مارة لا قصد لها فيه. وهذا من تمام الحزم والحذر، فإنها لو أبصرته، وجاءت إليهم قاصدة، لظنوا بها أنها هي التي ألقته، فربما عزموا على ذبحه، عقوبة لأهله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق. فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه؛ وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ظاهر ترتيب الأخبار أنها على وفق ترتيب مضامينها في الحصول، وهذا يرجح أن يكون حصول مضمون {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} [القصص: 10] سابقاً على حصول مضمون {وقالت لأخته قصيه}، أي قالت لأخته ذلك بعد أن اطمأن قلبها لما ألهمته من إلقائه في اليم، أي لما ألقته في اليم قالت لأخته: انظري أين يلقيه اليم ومتى يستخرج منه، وقد علمت أن اليم لا يلقيه بعيداً عنها لأن ذلك مقتضى وعد الله برده إليها... والجُنُب: بضمتين البعيد. وهو صفة لموصوف يعرف من المقام، أي عن مكان جنب. و {عن} للمجاوزة والمجرور في موضع حال من ضمير (بصرت) لأن المجاوزة هنا من أحوال أخته لا من صفات المكان. و {هم} أي آل فرعون حين التقطوه لا يشعرون بأن أخته تراقب أحواله وذلك من حذق أخته في كيفية مراقبته.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وهم لا يشعرون} أي لم يكونوا يشعرون بما تنطوي عليه أخته من اهتمام بأمره، وتتبع لحركاته، وقلق على مصيره، وأنه أخوها وهي أخته، وهكذا يتولى الله بحفظه ورعايته من أعدهم لتحمل رسالته، في مختلف المراحل والعهود، وفاء منه سبحانه وتعالى بما واثقهم عليه من المواثيق والعهود.
وحين سمعت الأخت هذا الأمر سارعت إلى التنفيذ؛ لذلك استخدم الفاء الدالة على التعقيب وسرعة الاستجابة {فبصرت به} ولم يقل: فقصته؛ لأن البصر وإن كان بمعنى الرؤية إلا أنه يدل على العناية والاهتمام بالمرئي...
ونلحظ هنا أن أخت موسى أخذت الأمر من أمها {قصيه} فقط ولم تلفت نظرها إلى هذا الاحتياط {عن جنب} مما يدل على ذكاء الفتاة وقيامها بمهمتها على أكمل وجه، وإن لم تكلف بذلك، وهذا من حكمة المرسل الحريص على أداء رسالته على وجهها الصحيح.