{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ } لأنه تعالى الذي بيده الهداية والإضلال ، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . { أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ } له العزة الكاملة التي قهر بها كل شيء ، وبعزته يكفي عبده ويدفع عنه مكرهم . { ذِي انْتِقَامٍ } ممن عصاه ، فاحذروا موجبات نقمته .
( أليس الله بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه . ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل . أليس الله بعزيز ذي انتقام ? ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . قل : أفرأيتم ما تدعون من دون الله ، إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل : حسبي الله ، عليه يتوكل المتوكلون . قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذابيخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) . .
هذه الآيات الأربع تصور منطق الإيمان الصحيح ، في بساطته وقوته ، ووضوحه ، وعمقه . كما هو في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة ، وكل قائم بدعوة . وهي وحدها دستوره الذي يغنيه ويكفيه ، ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم .
وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من آلهتهم ، ويحذرونه من غضبها ، وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها ، ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى . . .
ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل . فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة . كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن ، بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح .
بلى ! فمن ذا يخيفه ، وماذا يخيفه ? إذا كان الله معه ? وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام ? ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده ?
( ويخوفونك بالذين من دونه ) . .
فكيف يخاف ? والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله . وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله ?
إنها قضية بسيطة واضحة ، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن . . إنه الله . ومَن هم دون الله . وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه .
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة . وهو الذي يقضي في العباد قضاءه . في ذوات أنفسهم ، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم :
( ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل ) . . .
وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله ، ومن يستحق الهدى فيهديه . فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء .
( أليس الله بعزيز ذي انتقام ? )
بلى . وإنه لعزيز قوي . وإنه ليجازي كلاً بما يستحق . وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام . فكيف يخشى أحداً أو شيئاً من يقوم بحق العبودية له ، وهو كافله وكافيه ?
و أما جملة { ومَن يَهْدِ الله فما لهُ مِن مُضلٍ } فقد اقتضاها أن الكلام الذي اعترضت بعده الجملتان اقتضى فريقين : فريقاً متمسكاً بالله القادر على النفع والضر وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وآخرَ مستمسكاً بالأصنام العاجزة عن الأمرين ، فلما بُيّن أن ضلال الفريق الثاني ضلال مكين ببيان أن هدى الفريق الآخر راسخ متين فلا مطمع للفريق الضال بأن يجرّوا المهتدين إلى ضلالهم .
{ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِى انتقام } .
تعليل لإِنكار انتفاء كفاية الله عن ذلك كإنكار أن الله عزيز ذو انتقام ، فلذلك فصلت الجملة عن التي قبلها .
والاستفهام تقريري لأن العلم بعزة الله متقرر في النفوس لاعتراف الكل بإلهيته والإلهية تقتضي العزة ، ولأن العلم بأنه منتقم متقرر من مشاهدة آثار أخذه لبعض الأمم مثل عاد وثمود . فإذا كانوا يقرّون لله بالوصفين المذكورين فما عليهم إلا أن يعلموا أنّه كافٍ عبده بعزته فلا يقدر أحد على إصابة عبده بسوء ، وبانتقامه من الذين يبْتغون لعبده الأذى .
والعزيز : صفة مشبهة مشتقة من العزّ ، وهو منَعَة الجانب وأن لا يناله المتسلط وهو ضد الذل ، وتقدم عند قوله تعالى : { فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم } في سورة [ البقرة : 209 ] .
والانتقام : المكافأة على الشر بشر ، وهو مشتق من النقْم وهو الغضب كأنه مطاوعه لأنه مسبب عن النَّقْم ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فانتقمنا منهم فأغرقناهم } في اليم في سورة [ الأعراف : 136 ] . وانظر قوله تعالى : { واللَّه عزيز ذو انتقام } في سورة [ العقود : 95 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن يهد الله} لدينه {فما له من مضل} يقول: لا يستطيع أحد أن يضله.
{أليس الله بعزيز} يعني بمنيع في ملكه {ذي انتقام} آية من عدوه يعني كفار مكة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَمَنْ يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ": ومن يوفّقه الله للإيمان به، والعمل بكتابه.
"فما له من مضلّ": فما له من مزيغ يزيغه عن الحقّ الذي هو عليه إلى الارتداد إلى الكفر.
"ألَيسَ اللّهُ بعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ": أليس الله يا محمد بعزيز في انتقامه من كفرة خلقه، ذي انتقام من أعدائه الجاحدين وحدانيته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} أخبر أنه إذا أراد هداية أحدكم لم يملك أحد إضلاله، وإذا أراد إضلال أحد لم يقدر أحد على هدايته؛ ذكر في الدين أن لا أحد يملك دفع من أراد من هدي أو إضلال، ولا منعه عن ذلك على ما ذكر في الرّزق وأسباب العيش، وعلى ما ذكر في الأنفس وحفظها أن لا أحد يملك دفع ما أراد هو، فعلى ذلك في الدين؛ لأن الذّكر خرج في الكل على مخرج واحد...
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} هو على الإيجاب والتقرير.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما لم تبق شبهة ولا شيء من شك أن الهادي المضل إنما هو الله وحده، وأنه جعل شيئاً واحداً سبباً لضلال قوم ليكون ضلالهم في الظاهر علة للنقمة، وهدى لآخرين فيكون هداهم سبباً للنعمة، بلغ النهاية في الحسن قوله: {أليس الله} أي الذي بيده كل شيء {بعزيز} أي غالب لما يريد في إضلاله قوماً يدعون أنهم النهاية في كمال العقول لما هدى به غيرهم.
{ذي انتقام} أي له هذا الوصف، فمن أراد النقمة منه سلط عليه ما يريد مما يحزنه ويذله كما أنه إذا أراد يعميه عن أنور النور ويضله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هو يعلم من يستحق الضلالة فيضله، ومن يستحق الهدى فيهديه. فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء.
بلى. وإنه لعزيز قوي. وإنه ليجازي كلاً بما يستحق. وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام. فكيف يخشى أحداً أو شيئاً من يقوم بحق العبودية له، وهو كافله وكافيه؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ومَن يَهْدِ الله فما لهُ مِن مُضلٍ} فقد اقتضاها أن الكلام الذي اعترضت بعده الجملتان اقتضى فريقين: فريقاً متمسكاً بالله القادر على النفع والضر وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وآخرَ مستمسكاً بالأصنام العاجزة عن الأمرين، فلما بُيّن أن ضلال الفريق الثاني ضلال مكين ببيان أن هدى الفريق الآخر راسخ متين؛ فلا مطمع للفريق الضال بأن يجرّوا المهتدين إلى ضلالهم.
{أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام}.
تعليل لإِنكار انتفاء كفاية الله عن ذلك كإنكار أن الله عزيز ذو انتقام، فلذلك فصلت الجملة عن التي قبلها.
والاستفهام تقريري لأن العلم بعزة الله متقرر في النفوس لاعتراف الكل بإلهيته والإلهية تقتضي العزة؛ ولأن العلم بأنه منتقم متقرر من مشاهدة آثار أخذه لبعض الأمم مثل عاد وثمود. فإذا كانوا يقرّون لله بالوصفين المذكورين فما عليهم إلا أن يعلموا أنّه كافٍ عبده بعزته فلا يقدر أحد على إصابة عبده بسوء، وبانتقامه من الذين يبْتغون لعبده الأذى.
والعزيز: صفة مشبهة مشتقة من العزّ، وهو منَعَة الجانب وأن لا يناله المتسلط وهو ضد الذل.
والانتقام: المكافأة على الشر بشر، وهو مشتق من النقْم وهو الغضب كأنه مطاوعه؛ لأنه مسبب عن النَّقْم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومن يهد الله فما له من مضل، ومن البديهي أنّ الضلالة لا تأتي من دون سبب، وكذلك الهداية، بل إن كلّ حالة منهما هي استمرار لإرادة الإنسان وجهوده، فالذي يضع قدمه في طريق الضلال، ويبذل أقصى جهوده من أجل إطفاء نور الحقّ، ولا يترك أدنى فرصة تتاح له لخداع الآخرين وإضلالهم، فمن البديهي أنّ الله سيضله ولا يكتفي بعدم توفيقه وحسب، وإنّما يعطّل قوى الإدراك والتشخيص التي لديه عن العمل، ويوصد قلبه بالأقفال ويغطي عينيه بالحجب، وهذه هي نتيجة الأعمال التي ارتكبها، أمّا الذين يعزمون على السير إلى الله سبحانه وتعالى بنوايا خالصة، ويخطون الخطوات الأولى في هذا المسير، فإنّ نور الهداية الإلهية يشعّ لينير لهم الطريق، وتهبّ ملائكة الرحمن لمساعدتهم ولتطهير قلوبهم من وساوس الشياطين، فتكون إرادتهم قوية، وخطواتهم ثابتة، واللطف الإلهي ينقذهم من الزلاّت...
وكما هو معروف فإنّ الانتقام الإلهي هو بمعنى الجزاء على الأعمال المنكرة التي اقترفها الإنسان، وهذا يشير إلى أن إضلاله سبحانه وتعالى للإنسان هو بحدّ ذاته نوع من أنواع الجزاء، وردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه، وبالطبع فإن هدايته سبحانه وتعالى للإنسان هي بحد ذاتها نوع من أنواع الثواب، وهي ردّ فعل للأعمال الصالحة والخالصة التي يقوم بها الإنسان...