{ 36 - 37 } { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ }
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } أي : أليس من كرمه وجوده ، وعنايته بعبده ، الذي قام بعبوديته ، وامتثل أمره واجتنب نهيه ، خصوصا أكمل الخلق عبودية لربه ، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن اللّه تعالى سيكفيه في أمر دينه ودنياه ، ويدفع عنه من ناوأه بسوء .
{ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } من الأصنام والأنداد أن تنالك بسوء ، وهذا من غيهم وضلالهم .
( أليس الله بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه . ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل . أليس الله بعزيز ذي انتقام ? ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . قل : أفرأيتم ما تدعون من دون الله ، إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل : حسبي الله ، عليه يتوكل المتوكلون . قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذابيخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) . .
هذه الآيات الأربع تصور منطق الإيمان الصحيح ، في بساطته وقوته ، ووضوحه ، وعمقه . كما هو في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة ، وكل قائم بدعوة . وهي وحدها دستوره الذي يغنيه ويكفيه ، ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم .
وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من آلهتهم ، ويحذرونه من غضبها ، وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها ، ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى . . .
ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل . فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة . كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن ، بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح .
بلى ! فمن ذا يخيفه ، وماذا يخيفه ? إذا كان الله معه ? وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام ? ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده ?
( ويخوفونك بالذين من دونه ) . .
فكيف يخاف ? والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله . وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله ?
إنها قضية بسيطة واضحة ، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن . . إنه الله . ومَن هم دون الله . وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه .
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة . وهو الذي يقضي في العباد قضاءه . في ذوات أنفسهم ، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم :
( ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل ) . . .
وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله ، ومن يستحق الهدى فيهديه . فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء .
{ أليس الله بكاف عبده } استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات ، والعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل الجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي " عباده " ، وفسر بالأنبياء صلوات الله عليهم . { ويخوفونك بالذين من دونه } يعني قريشا فإنهم قالوا له إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها . وقيل إنه بعث خالدا ليكسر العزى فقال له سادنها أحذركها فإن لها شدة ، فعمد إليها خالد فهشم أنفها فنزل تخويف خالد منزلة تخويفه لأنه الآمر له بما خوف عليه . { ومن يضلل الله } حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا ينفع ولا يضر ، { فما له من هاد } يهديه إلى الرشاد .
وقوله تعالى : { أليس الله بكاف عبده } تقوية لنفس النبي عليه السلام ، لأن كفار قريش كانت خوفته من الأصنام ، وقالوا يا محمد أنت تسبها ونخاف أن تصيبك بجنون أو علة ، فنزلت الآية في ذلك .
وقرأ حمزة والكسائي : «عباده » يريد الأنبياء المختصين به ، وأنت أحدهم ، فيدخل في ذلك المطيعون من المؤمنين والمتوكلون على الله ، وهذه قراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش . وقرأ الباقون : «عبده » وهو اسم جنس ، وهي قراءة الحسن وشيبة وأهل المدينة ويقوي أن الإشارة إلى محمد عليه السلام قوله : { ويخوفونك } .
وقوله : { من دونه } يريد بالذين يعبدون من دونه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى كسر العزى ، فقال سادنها{[9898]} : يا خالد ، إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقوم لها شيء ، فأخذ خالد الفأس فهشم به وجهها وانصرف{[9899]} .
{ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } .
لمّا ضرب الله مثلاً للمشركين والمؤمنين بمَثَل رجل فيه شركاء متشاكسون ورجلٍ خالصٍ لرجل ، كان ذلك المثَل مثيراً لأن يقول قائِلُ المشركين لَتَتَأَلبَنَّ شركاؤنا على الذي جاء يحقرها ويسبها ، ومثيراً لحمية المشركين أن ينتصروا لآلهتهم كما قال مشركو قوم إبراهيم { حرقوه وانصروا آلهتكم } [ الأنبياء : 68 ] . وربما أنطقتهم حميتُهم بتخويف الرسول ، ففي الكشاف } و« تفسير القرطبي » : أن قريشاً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم « إنّا نخاف أن تُخْبِلَك آلهتُنا وإنا نخشى عليك معرتها ( بعين بعد الميم بمعنى الإِصابة بمكروه يَعنون المضرة ) لعيبك إياها » . وفي « تفسير ابن عطية » ما هو بمَعنى هذا ، فلمَّا حكى تكذيبَهم النبي عطف الكلام إلى ما هددوه به وخوفوه من شر أصنامهم بقوله : { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه } .
فهذا الكلام معطوف على قوله : { ضَربَ الله مثَلاً رجُلاً فيه شُركاء } [ الزمر : 29 ] الآية والمعنى : أن الله الذي أفردتَه بالعبادة هو كافيك شر المشركين وباطل آلهتهم التي عبدوها من دونه ، فقوله : أليس الله بكاففٍ عبده } تمهيد لقوله : و { يخوفونك بالذين من دونه } قدم عليه لتعجيل مساءة المشركين بذلك ، ويستتبع ذلك تعجيل مسرة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله ضامن له الوقاية كقوله : { فسيكفيكهم اللَّه } [ البقرة : 137 ] .
وأصل النظم : ويُخوّفونك بالذين من دون الله والله كافيك ، فغُير مجرى النظم لهذا الغرض ، ولك أن تجعل نظم الكلام على ترتيبه في اللفظ فتجعل جملة { أليس الله بكاف عبده } استئنافاً ، وتصير جملة { ويخوفونك } حالاً .
ووقع التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم الظاهر وهو { عَبْدَه } دون ضمير الخطاب لأن المقصود توجيه الكلام إلى المشركين ، وحُذف المفعول الثاني ل { كافٍ } لظهور أن المقصود كافيك أَذاهُم ، فأما الأصنام فلا تستطيع أذىً حتى يُكْفاه الرسول صلى الله عليه وسلم والاستفهام إنكار عليهم ظنّهم أن لا حامِيَ للرسول صلى الله عليه وسلم من ضرّ الأصنام . [ والمراد ب { عَبْدَه } هو الرسول صلى الله عليه وسلم لا محالة وبقرينة و { يُخوفونك } .
وفي استحضار الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية وإضافته إلى ضمير الجلالة ، معنى عظيم من تشريفه بهذه الإِضافة وتحقيققِ أنه غير مُسلمِه إلى أعدائه .
والخطاب في { ويخوفونك } للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو التفات من ضمير الغيبة العائد على { عبده } ، ونكتةُ هذا الإلتفات هو تمحيض قصد النبي بمضمون هذه الجملة بخلاف جملة { أليس الله بكاف عبده } كما علمت آنفاً .
و { الذين من دونه } هم الأصنام . عُبر عنهم وهم حجارة بمَوصول العقلاءِ لكثرة استعمال التعبير عنهم في الكلام بصيغ العقلاء . و { من دونه } صلة الموصول على تقدير محذوف يتعلق به المجرور دل عليه السياق ، تقديره : اتخذُوهم من دونه أو عبَدُوهم من دونه .
ووقع في « تفسير البيضاوي » أن سبب نزول هذه الآية هو خبر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى هدم العُزّى وأن سادن العزّى قال لخالد : أحذِّرُكَها يا خالد فإن لها شدةً لا يقوم لها شيء ، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس فأنزل الله هذه الآية .
وتأول الخطاب في قوله : { ويخوفونك } بأن تخويفهم خالداً أرادوا به تخويف النبي صلى الله عليه وسلم فتكون هذه الآية مدنية وسياق الآية ناببٍ عنه . ولعل بعض من قال هذا إنما أراد الاستشهاد لتخويف المشركين النبي صلى الله عليه وسلم من أصنامهم بمثال مشهور .
وقرأ الجمهور { بكاففٍ عبده } . وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف { عبادَه } بصيغة الجمع أي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فإنهم لما خوَّفوا النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرادوا تخويفه وتخويف أتباعه وأن الله كفاهم شرهم .
{ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }
اعتراض بين جملة { أليس الله بكاف عبده } الآية وجملةِ { أليس الله بعزيز ذي انتقام } قصد من هذا الاعتراض أن ضلالهم داء عَياء لأنه ضلال مكوَّن في نفوسهم وجبلّتهم قد ثبّتته الأيام ، ورسخه تعاقب الأجيال ، فَران بغشاوته على ألبابهم ، فلما صار ضلالهم كالمجبول المطبوع أسند إيجاده إلى الله كناية عن تعسر أو تعذر اقتلاعه من نفوسهم .
وأريد من نفي الهادي من قوله : { فما له من هاد } نفي حصول الاهتداء ، فكني عن عدم حصول الهدى بانتفاء الهادي لأن عدم الاهتداء يجعل هاديهم كالمنفي . وقد تقدم قوله في سورة [ الأعراف : 186 ] { من يضلل اللَّه فلا هادي له . } والآيتان متساويتان في إفادة نفي جنس الهادي ، إلا أن إفادة ذلك هنا بزيادة مِن } تنصيصاً على نفي الجنس . وفي آية الأعراف ببناء هادي على الفتح بعد ( لا ) النافية للجنس فإن بناء اسمها على الفتح مشعر بأن المراد نفي الجنس نصًّا . والاختلاف بين الأسلوبين تفنن في الكلام وهو من مقاصد البلغاء .
وتقديم { له } على { هَادٍ } للاهتمام بضميرهم في مقام نفي الهادي لهم لأن ضلالهم المحكي هنا بالغ في الشناعة إذا بلغ بهم حدَّ الطمع في تخويف النبي بأصنامهم في حال ظهور عدم اعتداده بأصنامهم لكل متأمل مِن حالِ دعوته ، وإذْ بلغ بهم اعتقاد مقدرة أصنامهم مع الغفلة عن قدرة الرب الحَقّ ، بخلاف آية الأعراف فإن فيها ذكر إعراضهم عن النظر في ملكوت السماوات والأرض وهو ضلال دون ضلال التخويف من بأس أصنامهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة:"ألَيْسَ اللّهُ بكافٍ عَبْدَهُ"؛ فقرأ ذلك بعض قراء المدينة وعامة قرّاء أهل الكوفة: «ألَيْسَ اللّهُ بكافٍ عِبادَهُ» على الجماع، بمعنى: أليس الله بكاف محمدا وأنبياءه من قبله ما خوفتهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفة: "بكاف عَبْدَهُ "على التوحيد، بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمدا.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأةِ الأمصار. فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لصحة مَعْنَيَيْهَما واستفاضة القراءة بهما في قَرَأةِ الأمصار...
وقوله: "ويُخَوّفُونَكَ بالّذِينَ مِنْ دُونِهِ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والاَلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك... وقوله: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هاد" يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله فيضلّه عن طريق الحق وسبيل الرشد، فما له سواه من مرشد ومسدّد إلى طريق الحقّ، وموفّق للإيمان بالله، وتصديق رسوله، والعمل بطاعته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الآية يحتجّ بها على إثبات الرسالة، وكذلك قوله: {فإن تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو} [التوبة: 129] وكذلك قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] ونحو ذلك، وأمثاله كثيرة وكان يقرع أسماعهم بهذه الآيات التي ذكرنا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فاللَّهُ كافٍ عَبْدَه اليومَ في عرفانه بتصحيح إيمانه ومَنْع الشِّرْكِ عنه، وغداً في غفرانه بتأخير العذاب عنه، وما بينهما فكفايتهُ تامة وسلاَمته عامة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف وفي هذا تهكم بهم؛ لأنّهم خوّفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضرّ...
جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة، فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده}؛ لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات غني عن كل الحاجات، وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات ويزيل البليات ويوصل إليه كل المرادات، فلهذا قال:
{أليس الله بكاف عبده} ولما ذكر الله المقدمة رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال:
{ويخوفونك بالذين من دونه} يعني لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف بغير الله عبثا وباطلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أليس الله} أي الجامع لصفات العظمة كلها المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال، وأكد المراد بزيادة الجار لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون فقال:
{بكاف} وحقق المناط بالإضافة في قوله: {عبده} أي الخالص له الذي لم يشرك به أصلاً كما تقدم في المثل، ممن كذبه وقصد مساءته فينصره عليهم حتى يظهر دينه ويعلي أمره ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره أو يجنح إلى سواه، باعتقاد أن في يده شيئاً يستقل به.
ولما كان الجواب قطعاً: بلى، إنه ليكفي من يشاء، والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم، بني على ذلك حالاً عجيباً من أحوالهم، فقال معجباً منهم ومتهكماً بهم: {ويخوفونك} أي عباد الأصنام يعلمون أن الله يكفي من أراد، وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه والحال أنهم يخوفونك.
ولما كان الخوف ممن له اختيار، فإن كان عاقلاً كان أقوى لمخالفته، وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم فضلاً عن العقل، قال تهكماً بهم بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم، فصاروا بذلك ضحكة وشهرة بين الناس: {بالذين} وبين حقارتهم بقوله: {من دونه} وهم معبوداتهم ضلالاً عن المحجة فيقولون: إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا كما قالت عاد لهود عليه السلام {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود:54] وسيأتي التعبير عنهم بالتأنيث زيادة في توبيخهم.
ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل، وكان التقدير: فقد أظلهم الله إهانة لهم وهداك إكراماً لك، بين أنه سبحانه قسرهم على ذلك ليكون إضلاله لهم آية، كما أن هداه لمن هداه آية، فقال مخففاً عنه صلى الله عليه وسلم في إذهاب نفسه عليهم حسرات دامغاً للقدرية:
{ومن يضلل الله} أي الذي له الأمر كله فلا يرد أمره.
{فما له} لأجل أنه هو الذي أضله {من هاد} أي فخفض من حزنك عليهم...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وأتى بالكلام على طريق الأسلوب الإنكاري للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسر لأحد أن ينكرها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الجولة أوسع مقاطع السورة. وهي تتناول حقيقة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة. تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة؛ واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة. ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى الله يوم القيامة ويمضي في طريقه ثابتاً واثقاً مستيقناً بالمصير.
يتلو هذا بيان وظيفة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وأنه ليس وكيلاً على العباد في هداهم وضلالهم. إنما الله هو المسيطر عليهم؛ الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم. وليس لهم من دونه شفيع فإن لله الشفاعة جميعاً. وإليه ملك السماوات والأرض. وإليه المرجع والمصير.
بلى! فمن ذا يخيفه، وماذا يخيفه؟ إذا كان الله معه؟ وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام؟ ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟
فكيف يخاف؟ والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله. وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله؟
إنها قضية بسيطة واضحة، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن.. إنه الله. ومَن هم دون الله. وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه.
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة. وهو الذي يقضي في العباد قضاءه في ذوات أنفسهم، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
في استحضار الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية وإضافته إلى ضمير الجلالة، معنى عظيم من تشريفه بهذه الإِضافة وتحقيقِ أنه غير مُسلمِه إلى أعدائه.
يعني: يا محمد، لا تهتم بهذا الهراء فالله حَسْبك وكافيك، والذي يدل على ذلك أن رسول الله كان يحرسه القوم من المؤمنين مخافة أن يناله المشركون بسوء، ففوجئوا في يوم أن رسول الله يسرحهم ويُنهي هذه الحراسة ويصرفها.
ولو لم يكُنْ رسول الله واثقاً أن الذي أمره بصرف الحراس كفيلٌ بحفظه وحمايته لما فعل ذلك في نفسه؛ لذلك رأينا المرأة الدنماركية وهي تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم، أنه أعظم العظماء الذين تركوا بصمة واضحة في التاريخ، وقلبوا ميزان الدنيا، فلما جاءت عند هذه الحادثة وقرأت {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وقرأت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] قالت: والله ما فعل محمد ذلك إلا وهو واثقٌ من حماية ربه له، ولو خدع الناسَ جميعاً ما خدع نفسه، وآمنتْ بسبب هذه المسألة.
قوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} يحلو للبعض أن يقول المعنى: أليس الله كافياً عبده، ويعتبرون الباء زائدة، وهذا غير صحيح، فليس في كلام الله تعالى حرف زائد، فالهمزة هنا استفهام إنكاري، والإنكار يفيد النفي، بعدها ليس للنفي ونفي النفي إثبات.
يعني: ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، وما دُمْنا ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، فالنتيجة أن الله تعالى كافٍ عبده.
والحق سبحانه وتعالى: له اسم هو الله، وله صفات هي التي عرفناها بالأسماء الحسنى، ومن أسمائه الحسنى الكافي، فالمعنى إذن: أليس الله موصوفاً بكاف عبده، فكيف إذن نقول: إن الباء زائدة؟
إن القول بزيادة الباء هنا يناقضُ بلاغةَ القرآن، ولا يصح أن نقول: إن في القرآن حرفاً زائداً، البعض يتأدّبون مع كلام الله ويقولون: بل هو حرف صلة، وآخرون يقولون: حرف لربط الوجود، ولسنا في حاجة إلى كل هذه التأويلات...
أما الذين قالوا بزيادة الباء في {بِكَافٍ} فقد اعتبروا (ليس) من أخوات كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، فلفظ الجلالة اسمها مرفوع وكافٍ خبرها، فالتقدير: أليس الله كافياً عبده، وهذا ينافي جلال القرآن وبلاغته.
وقوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} أي: بالأصنام {وَمَن يُضْـلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ} يعني: دعهم يقولون ما يقولون فقد أَضلهم الله فمَنْ يهديهم؟