ف { قَالُوا } لهم موبخين ومبينين أن شفاعتهم لا تنفعهم ، ودعاءهم لا يفيدهم شيئًا : { أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } التي تبينتم بها الحق والصراط المستقيم ، وما يقرب من الله وما يبعد منه ؟
{ قَالُوا بَلَى } قد جاءونا بالبينات ، وقامت علينا حجة الله البالغة فظلمنا وعاندنا الحق بعد ما تبين . { قَالُوا } أي : الخزنة لأهل النار ، متبرئين من الدعاء لهم والشفاعة : { فَادْعُوا } أنتم ولكن هذا الدعاء هل يغني شيئا أم لا ؟
قال تعالى : { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } أي : باطل لاغ ، لأن الكفر محبط لجميع الأعمال صادّ لإجابة الدعاء .
ولكن خزنة جهنم لا يستجيبون لهذه الضراعة البائسة الذليلة الملهوفة . فهم يعرفون الأصول . ويعرفون سنة الله ، ويعرفون أن الأوان قد فات . وهم لهذا يزيدون المعذبين عذاباً بتأنيبهم وتذكيرهم بسبب هذا العذاب :
( وقالوا : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ? . . قالوا : بلى ) .
وفي السؤال وفي جوابه ما يغني عن كل حوار . وعندئذ نفض الخزنة أيديهم منهم ، وأسلموهم إلى اليأس مع السخرية والاستهتار :
إن كان الدعاء يغير من حالكم شيئاً ، فتولوا أنتم الدعاء .
وتعقب الآية قبل تمامها على هذا الدعاء :
( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) . .
لا يبلغ . ولا يصل . ولا ينتهي إلى جواب . إنما هو الإهمال والازدراء للكبراء والضعفاء سواء .
{ قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } أرادوا به إلزامهم للحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإجابة . { قالوا بلى قالوا فادعوا } فإنا لا نجترئ فيه إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم ، وفيه إقناط لهم عن الإجابة . { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } ضياع لا يجاب ، وفيه اقناط لهم عن الإجابة .
فراجعتهم الخزنة على معنى التوبيخ لهم . والتقرير : { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } فأقر الكفار عند ذلك وقالوا { بلى } ، أي قد كان ذلك ، فقال لهم الخزنة عند ذلك : فادعوا أنتم إذاً ، وعلى هذا معنى الهزء بهم ، فادعوا أيها الكافرون الذين لا معنى لدعائهم ، وقالت فرقة : { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } هو من قول الخزنة . وقالت فرقة : هو من قول الله تعالى إخباراً منه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجاءت هذه الأفعال على صيغة المضي ، قال الناس الذين استكبروا وقال للذين في النار ، لأنها وصف حال متيقنة الوقوع فحسن ذلك فيها .
الواو في قوله : { أوَلَمْ تَكُ تَأتِيكُم رُسُلُكُم } لم يعرج المفسرون على موقعها . وهي واو العطف عطف بها ( خزنة جهنم ) كلامهم على كلام الذين في النار من قَبيل طريقة عطف المتكلم كلاماً على كلاممٍ صدر من المخاطب إيماء إلى أن حقه أن يكون من بقية كلامه وأن لا يُغفِله ، وهو ما يلقب بعطف التلقين كقوله تعالى : { قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] فإن أهل النار إذا تذكروا ذلك علموا وجاهة تنصل خزنة جهنم من الشفاعة لهم ، وتفريع { فادعو } على ذلك ظاهر على كلا التقديرين . وهمزة الاستفهام مقدمة من التأخير على التقديرين ، لوجوب صدارتها .
وجملة { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } يجوز أن تكون من كلام خزنة جهنم تذييلاً لكلامهم يبين أن قولهم : { فادعو } مستعمل في التنبيه على الخطأ ، أي دعاؤكم لم ينفعكم لأن دعاء الكافرين في ضلال والواو اعتراضية ، ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى تذييلاً واعتراضاً .
والبينات : الحجج الواضحة والدعَوات الصريحة إلى اتباع الهدى . فلم يسعهم إلا الاعتراف بمجيء الرسل إليهم بالبينات فقالوا : بلى ، فرد عليهم خزنة جهنم بالتنصل من أن يدعُوا الله بذلك ، إلى إيكال أمرهم إلى أنفسهم بقولهم : { فادعو } تفريعاً على اعترافهم بمجيء الرسل إليهم بالبينات .
ومعنى تفريعه عليه هو أنه مفرع عليه باعتبار معناه الكِنائي الذي هو التنصل من أن يَدعُوا لهم ، أي كما توليتم الإعراض عن الرسل استبداداً بآرائكم فتولَّوا اليومَ أمرَ أنفسكم فادعوا أنتم ، فإن « من تولى قُرها يَتولَّى حَرَّها » ، فالأمر في قوله : { فادعو } مستعمل في الإِباحة أو في التسوية ، وفيه تنبيه على خطإِ السائلين في سُؤالهم .
وزيادة فعل الكَون في { أوَلَمْ تَكُ تَأتِيكم } للدلالة على أن مجيء الرسل إلى الأمم أمر متقرر محقّق ، لما يدل عليه فعل الكَون من الوجود بمعنى التحقق ، وأما الدلالة على أن فعل الإِتيان كان في الزمن الماضي فهو مستفاد من ( لَم ) النافية في الماضي .
والضلال : الضياع ، وأصله : خطأ الطريق ، كما في قوله تعالى : { أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] .
والمعنى : أن دعاءهم لا ينفعهم ولا يُقبل منهم ، وسواء كان قوله : { وَمَا دُعاء الكافرين إلاَّ فِي ضلال } من كلام الملائكة أو من كلام الله تعالى فهو مقتض عموم دعائهم لأن المصدر المضاف من صيغ العموم فيقتضي أن دعاء الكافرين غير متقبل في الآخرة وفي الدنيا لأن عموم الذوات يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة .
وأما ما يوهم استجابة دعاء الكافرين نحو قوله تعالى : { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها } [ الأنعام : 63 ، 64 ] وقوله : { دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } [ يونس : 22 ، 23 ] ، فظاهر أن هذه لا تدل على استجابة كرامة ولكنها لتسجيل كفرهم ونكرانهم ، وقد يُتوهم في بعض الأحوال أن يَدْعو الكافر فيقع ما طَلبه وإنما ذلك لمصادفة دعائه وقَت إجابة دعاء غيره من الصالحين ، وكيف يستجاب دعاء الكافر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم استبعاد استجابة دعاء المؤمن الذي يأكل الحرام ويلبس الحرام في حديث مسلم عن أبي هريرة : « ذَكَر رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُطيلُ السَّفَر أشعثَ أَغْبَرَ يُمدُّ يديْه إلى السماء : يا رَبِّ يا رَبِّ ، ومطعَمُه حَرام ومَشْرَبُه حرام وغُذّي بالحرام فأنَّى يستجاب له » . ولهذا لم يقل الله : فلما استجاب دعاءهم ، وإنما قال : فلما نجاهم ، أي لأنه قدّر نجاتهم من قبل أن يدعوا أو لأن دعاءهم صادف دعاء بعض المؤمنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فردت عليهم الخزنة ف {قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم} يعني رسل منكم.
{بالبينات} يعني بالبيان {قالوا بلى} قد جاءتنا الرسل.
{قالوا} قالت لهم الخزنة: {فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قالُوا أوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبَيّناتِ": قالت خزنة جهنم لهم: أو لم تك تأتيكم في الدنيا رسلكم بالبينات من الحجج على توحيد الله، فتوحدوه وتؤمنوا به، وتتبرؤوا مما دونه من الآلهة؟ قالوا: بلى، قد أتتنا رسلنا بذلك.
"قالُوا فادْعُوا": قالت الخزنة لهم: فادعوا إذن ربكم الذي أتتكم الرسل بالدعاء إلى الإيمان به.
"وَما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ": قد دعوا وما دعاؤهم إلا في ضلال؛ لأنه دعاء لا ينفعهم، ولا يستجاب لهم، بل يقال لهم: "اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلّمُونَ"...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَالُواْ فادعوا} أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلاّ بشرطين: كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين، وليس قولهم {فادعوا} لرجاء المنفعة، ولكن للدلالة على الخيبة؛ فإن الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه، فكيف يسمع دعاء الكافر...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
الفاءُ في قولِه تعالَى: {قَالُواْ فادعوا} فصحيةٌ، أيْ إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فادعُوا أنتُم فإنَّ الدعاءَ لمن يفعلُ ذلكَ مما يستحيلُ صدورُه عنَّا؛ وتعليلُ امتناعِهم عنِ الدعاءِ بعدمِ الإذنِ فيه معَ عرائِه عن بيانِ أنَّ سبَبهُ من قبلِهم كَما تُفصحُ عنه الفاءُ رُبَّما يُوهُم أنَّ الإذنَ في حيزِ الإمكانِ وأنَّهم لو أُذنَ لهم فيهِ لفعلُوا، ولم يريدُوا بأمرِهم بالدعاءِ إطماعَهُم في الإجابةِ، بل إقناطَهم منَها وإظهارَ خيبتهم حسبما صرَّحُوا بهِ في قولِهم: {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِي ضلال} أي ضياعٍ وبُطلانٍ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لكن خزنة جهنم لا يستجيبون لهذه الضراعة البائسة الذليلة الملهوفة. فهم يعرفون الأصول. ويعرفون سنة الله، ويعرفون أن الأوان قد فات. وهم لهذا يزيدون المعذبين عذاباً بتأنيبهم وتذكيرهم بسبب هذا العذاب: (وقالوا: أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟.. قالوا: بلى). وفي السؤال وفي جوابه ما يغني عن كل حوار. وعندئذ نفض الخزنة أيديهم منهم، وأسلموهم إلى اليأس مع السخرية والاستهتار: (قالوا: فادعوا).. إن كان الدعاء يغير من حالكم شيئاً، فتولوا أنتم الدعاء. وتعقب الآية قبل تمامها على هذا الدعاء: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).. لا يبلغ. ولا يصل. ولا ينتهي إلى جواب. إنما هو الإهمال والازدراء للكبراء والضعفاء سواء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الواو في قوله: {أوَلَمْ تَكُ تَأتِيكُم رُسُلُكُم} لم يعرج المفسرون على موقعها. وهي واو العطف عطف بها (خزنة جهنم) كلامهم على كلام الذين في النار من قَبيل طريقة عطف المتكلم كلاماً على كلامٍ صدر من المخاطب إيماء إلى أن حقه أن يكون من بقية كلامه وأن لا يُغفِله، وهو ما يلقب بعطف التلقين كقوله تعالى: {قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي} [البقرة: 124]، فإن أهل النار إذا تذكروا ذلك علموا وجاهة تنصل خزنة جهنم من الشفاعة لهم.
وتفريع {فادعوا} على ذلك ظاهر على كلا التقديرين. وهمزة الاستفهام مقدمة من التأخير على التقديرين لوجوب صدارتها.
وجملة {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}...يجوز أن تكون من كلام الله تعالى تذييلاً واعتراضاً.
والبينات: الحجج الواضحة والدعَوات الصريحة إلى اتباع الهدى.
وزيادة فعل الكَون في {أوَلَمْ تَكُ تَأتِيكم} للدلالة على أن مجيء الرسل إلى الأمم أمر متقرر محقّق، لما يدل عليه فعل الكَون من الوجود بمعنى التحقق، وأما الدلالة على أن فعل الإِتيان كان في الزمن الماضي فهو مستفاد من (لَم) النافية في الماضي. والضلال: الضياع، وأصله: خطأ الطريق، كما في قوله تعالى: {أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10]. والمعنى: أن دعاءهم لا ينفعهم ولا يُقبل منهم، وسواء كان قوله: {وَمَا دُعاء الكافرين إلاَّ فِي ضلال} من كلام الملائكة أو من كلام الله تعالى فهو مقتض عموم دعائهم؛ لأن المصدر المضاف من صيغ العموم، فيقتضي أن دعاء الكافرين غير متقبل في الآخرة وفي الدنيا؛ لأن عموم الذوات يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة. وأما ما يوهم استجابة دعاء الكافرين نحو قوله تعالى: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها} [الأنعام: 63، 64] وقوله: {دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} [يونس: 22، 23]، فظاهر أن هذه لا تدل على استجابة كرامة ولكنها لتسجيل كفرهم ونكرانهم، وقد يُتوهم في بعض الأحوال أن يَدْعو الكافر فيقع ما طَلبه، وإنما ذلك لمصادفة دعائه وقَت إجابة دعاء غيره من الصالحين، وكيف يستجاب دعاء الكافر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم استبعاد استجابة دعاء المؤمن الذي يأكل الحرام ويلبس الحرام في حديث مسلم عن أبي هريرة: « ذَكَر رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُطيلُ السَّفَر أشعثَ أَغْبَرَ يُمدُّ يديْه إلى السماء: يا رَبِّ يا رَبِّ، ومطعَمُه حَرام ومَشْرَبُه حرام وغُذّي بالحرام فأنَّى يستجاب له». ولهذا لم يقل الله: فلما استجاب دعاءهم وإنما قال: فلما نجاهم؛ أي لأنه قدّر نجاتهم من قبل أن يدعوا أو لأن دعاءهم صادف دعاء بعض المؤمنين...