مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُوٓاْ أَوَلَمۡ تَكُ تَأۡتِيكُمۡ رُسُلُكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِۖ قَالُواْ بَلَىٰۚ قَالُواْ فَٱدۡعُواْۗ وَمَا دُعَـٰٓؤُاْ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ} (50)

فأولئك الملائكة يقولون لهم { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } والمقصود أن قبل إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا إنه { ما جاءنا من بشير ولا نذير } أما بعد مجيء الرسل فلم يبق عذر ولا علة كما قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وهذه الآية تدل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع ، ثم إن أولئك الملائكة يقولون للكفار ادعوا أنتم فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين ( أحدهما ) كون المشفوع له مؤمنا ( والثاني ) حصول الإذن في الشفاعة ولم يوجد واحد من هذين الشرطين فإقدامنا على هذه الشفاعة ممتنع لكن ادعوا أنتم ، وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة ، ولكن للدلالة على الخيبة ، فإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكفار ، ثم يصرحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } فإن قيل إن الحاجة على الله محال ، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال : إنه تأذى من هؤلاء المجرمين بسبب جرمهم ، وإذا كان التأذي محالا عليه كانت شهوة الانتقام ممتنعة في حقه ، إذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضار العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار لا منفعة فيه إلى الله تعالى ولا لأحد من العبيد ، فهو إضرار خال عن جميع الجهات المنتفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يبقى على ذلك الإيلام أبد الآباد ودهر الداهرين ، من غير أن يرحم حاجتهم ومن غير أن يسمع دعاءهم ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم وانكسارهم ، ولو أن أقصى الناس قلبا فعل مثل هذا التعذيب ببعض عبيده لدعاه كرمه ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيد في محل النفع والضرر والحاجة ، فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار ؟ قلنا أفعال الله لا تعلل و { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به ، والله أعلم بالصواب .