{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم .
{ إِنَّ ذَلِكَ } الذي أحيا الأرض بعد موتها { لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته تعالى لا يتعاصى عليها شيء وإن تعاصى على قدر خلقه ودق عن أفهامهم وحارت فيه عقولهم .
( فانظر إلى آثار رحمة الله ) . . ! انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط ، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود ؛ وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب .
( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ) . . إنها حقيقة واقعة منظورة ، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر . ومن ثم يتخذها برهانا على قضية البعث والإحياء في الآخرة . على طريقة الجدل القرآني ، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة ، وواقع الحياة المشهودة ، مادته وبرهانه ؛ ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه :
( إن ذلك لمحيي الموتى ) . . ( وهو على كل شيء قدير ) . .
وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير .
وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء ؛ ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء . .
{ فانظر إلى أثر رحمت الله } أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص . { كيف يحيي الأرض بعد موتها } وقرئ بالتاء على إسناده إلى ضمير الرحمة . { إن ذلك } يعني إن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها . { لمحيي الموتى } لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية ، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية ، هذا ومن المحتمل أن يكون من الكائنات الراهنة ما يكون من مواد تفتت وتبددت من جنسها في بعض الأعوام السالفة . { وهو على كل شيء قدير } لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فانظر} يا محمد {إلى آثار رحمت الله} يعني النبت من آثار المطر.
{كيف يحي الأرض بعد موتها} بالمطر فتنبت من بعد موتها حين لم يكن فيها نبت.
ثم دل على نفسه فقال: {إن ذلك}: إن هذا الذي فعل ما ترون {لمحيي الموتى} في الآخرة، فلا تكذبوا بالبعث، يعني كفار مكة.
{وهو على كل شيء قدير} من البعث وغيره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قوله:"فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللّهِ"؛ فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: "إلى أثَرِ رَحْمَةِ اللّهِ "على التوحيد، بمعنى: فانظر يا محمد إلى أثر الغيث الذي أصاب الله به من أصاب من عباده، كيف يحيي ذلك الغيث الأرض من بعد موتها. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللّهِ» على الجماع، بمعنى: فانظر إلى آثار الغيث الذي أصاب الله به من أصاب كيف يحيي الأرض بعد موتها.
والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأَة الأمصار، متقاربتا المعنى وذلك أن الله إذا أحيا الأرض بغيث أنزله عليها، فإن الغيث أحياها بإحياء الله إياها به، وإذا أحياها الغيث، فإن الله هو المحيي به، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب. فتأويل الكلام إذن: فانظر يا محمد إلى آثار الغيث الذي ينزّل الله من السحاب، كيف يحيي بها الأرض الميتة، فينبتها ويعشبها من بعد موتها ودثورها. "إن ذلك لمحيي الموتى" يقول جلّ ذكره: إن الذي يحيي هذه الأرض بعد موتها بهذا الغيث، لمحيي الموتى من بعد موتهم، وهو على كلّ شيء مع قدرته على إحياء الموتى قدير، لا يعزّ عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه سبحانه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إلى آثار رحمة الله} أي المطر؛ أراد بالرحمة المطر، سمي المطر رحمة لأنه يكون برحمته، أو أن تكون الآثار، هي المطر نفسه، جعله من آثار رحمته وأعلامه.
ثم الأمر بالنظر والاعتبار بآثار رحمته يحتمل وجوها:
أحدها: أمرهم بالنظر إلى ذلك ليعلموا أنه رحيم كي يرغبوا في ما رغبهم، ويرجوا في ما أطمعهم، ودعاهم إليه، إذ قد ظهرت آثار رحمته، فكل رحيم يرغب في ما رغب، وأطمع.
والثاني: أن يكون الأمر بالنظر إلى آثار رحمته لأن ذلك راجع إلى منافع أبدانهم وأنفسهم وما به قوامهم ليستأدي بذلك شكره. وفي ذلك تقع الحاجة إلى من يعرفهم تلك النعم، ويعرفهم شكرها، فيكون في ذلك الترغيب في قبول الرسالة وإثبات نبوة رسوله.
والثالث: راجعة إلى منافع دينهم وآخرتهم، وهي رسول الله، إذ سماه في غير موضع رحمة بقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
لما ذكر الدلائل قال "لمحيي "باللام المؤكدة وباسم الفاعل.
{وهو على كل شيء قدير} تأكيد لما يفيد الاعتراف...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فانظر} لما كان المراد تعظيم النعمة، وأن الرزق أكثر من الخلق، عبر بحرف الغاية إشارة إلى تأمل الأقصى بعد تأمل الأدنى فقال: {إلى آثار}.
ولما لم يكن لذلك سبب سوى سبق رحمته لغضبه قال: {رحمت الله} الجامع لمجامع العظمة، وأظهر ولم يضمر تنبيهاً على ما في ذلك من تناهي العظمة في تنوع الزروع بعد سقيا الأرض واهتزازها بالنبات واخضرار الأشجار واختلاف الثمار، وتكون الكل من ذلك الماء.
ولما كان هذا من الخوارق العظيمة، ولكنه قد تكرر حتى صار مألوفاً، نبه على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال: {كيف يحيي} أي هذا الأثر أو الله مرة بعد أخرى {الأرض} بإخراج ما ذكر منها.
ولما كانت قدرته على تجديد إحيائها دائمة -على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة، أشار إلى ذلك أيضاً بترك الجار فقال: {بعد موتها} بانعدام ذلك.
{لمحيي الموتى}... أي ما زال قادراً على ذلك ثابتاً له هذا الوصف ولا يزال.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فانظر إلى آثار رحمة الله)..! انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود؛ وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب. (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها).. إنها حقيقة واقعة منظورة، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر. ومن ثم يتخذها برهانا على قضية البعث والإحياء في الآخرة. على طريقة الجدل القرآني، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة، وواقع الحياة المشهودة، مادته وبرهانه؛ ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه: (إن ذلك لمحيي الموتى).. (وهو على كل شيء قدير).. وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير. وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء؛ ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
رتب على ما تقرر من استحضار صورة تكوين أسباب المطر واستبشار الناس بنزوله بعد الإبلاس، أن اعتُرض بذكر الأمر بالنظر إلى أثر الرحمة وإغاثة الله عباده حين يحيي لهم الأرض بعد موتها بالجفاف.
والأمر بالنظر للاعتبار والاستدلال. والنظر: رؤية العين. وعبر عن الجفاف بالموت لأن قوام الحياة الرطوبة، وعبر عن ضده بالإحياء.
والخطاب ب {انظر} لغير معين ليعم كل من يتأتى منه النظر مثل قوله {فترى الودق} [الروم: 48].
{رحمة الله}: هي صفته التي تتعلق بإمداد مخلوقاته ذوات الإدراك بما يلائمها ويدفع عنها ما يؤلمها وذلك هو الإنعام.
أثر الشيء: ما ينشأ عنه مما يدل عليه. فرحمة الله دلت عليها الآثار الدالة على وجوده وتصرفه بما فيه رحمة للخلق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَانظُرْ إِلَى آثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحيي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ} في خضرة الأرض المهتزة بالعشب، والفاكهة المتدلِّية من الأشجار النضرة، وبالزرع الذي يحمل كل خصائص الحياة الغنية بعناصر القوّة للإنسان وللحيوان. ولا تشغلك مظاهر الجمال فيها عن التفكّر في الله الذي خلقها وأحياها وأعطاها سرّ الحيوية والامتداد، وحاول أن تستشعر معنى الرحمة الإِلهية في ذلك كله، ليهتز الشعور بمحبة الله في نظرة الإنسان إلى آثار رحمته، تماماً كما يهتز بالانفعال بجمال الطبيعة في أجواء الربيع المهتز بالخضرة.
ولا يقتصر التوجيه القرآني في استلهام العمق العقيدي بالإيمان بالله والشعور برحمته، على ما يثيره في نفس الإنسان من مشاعر الامتنان بالنعمة والرحمة، بل يمتد إلى أن يحرك الفكر في اتجاه استشفاف عقلانية الإيمان باليوم الآخر في مواجهته للفكرة المضادة التي تنكر البعث على أساس استبعاده، وذلك من خلال المقارنة بين موت الأرض وحياتها بقدرة الله، وبين موت الإنسان وإحيائه بعد ذلك بقدرة الله، فإن محيي الأرض هو محيي الإنسان {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإذا كان الله يملك القدرة المطلقة فلا يعجزه شيء، في ما يخلق، ولا في تدبيره، ولا في تغييره بما يشاء.