{ 32 } { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا }
والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن : " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " خصوصا هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داع إليه .
ووصف الله الزنى وقبحه بأنه { كَانَ فَاحِشَةً } أي : إثما يستفحش في الشرع والعقل والفطر لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها وإفساد الفراش واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد .
وقوله : { وَسَاءَ سَبِيلًا } أي : بئس السبيل سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم .
ومن النهي عن قتل الأولاد إلى النهي عن الزنا :
( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) . .
وبين قتل الأولاد والزنا صلة ومناسبة - وقد توسط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس - لذات الصلة وذات المناسبة .
إن في الزنا قتل من نواحي شتى . إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها ، يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق ، قبل مولده أو بعد مولده فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة ، أو حياة مهينة ، فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء . . وهو قتل في صورة أخرى . قتل للجماعة التي يفشو فيها ، فتضيع الأنساب وتختلط الدماء ، وتذهب الثقة في العرض والولد ، وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها ، فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات .
وهو قتل للجماعة من جانب آخر ، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها ، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي إليها ، والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة ، لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه .
وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال ، منذ التاريخ القديم إلى العصر الحديث . وقد يغر بعضهم أن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة فيهما . ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفرنسا ظاهرة لا شك فيها . أما في الأمم الفتية كالولايات المتحدة ، فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة هذا الشعب واتساع موارده كالشاب الذي يسرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في بنيته وهو شاب ولكنه سرعان ما يتحطم عندما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال آثار السن ، كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده !
والقرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا . وهي مبالغة في التحرز . لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة ، فالتحرز من المقاربة أضمن . فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان .
ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة ، توقيا للوقوع فيه . . يكره الاختلاط في غير ضرورة . ويحرم الخلوة . وينهى عن التبرج بالزينة . ويحض على الزواج لمن استطاع ، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع . ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور . وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد . ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم . ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع ، وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان . . إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج ، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال .
يقول تعالى ناهيًا عباده عن الزنا وعن مقاربته ، وهو مخالطة أسبابه{[17466]} ودواعيه { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : ذنبًا عظيمًا { وَسَاءَ سَبِيلا } أي : وبئس طريقًا ومسلكًا .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا جرير ، حدثنا سليم بن عامر ، عن أبي أمامة قال : إن فتى شابًا أتى النبي{[17467]} صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ائذن لي بالزنا . فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مًهْ مَهْ . فقال : " ادنه " . فدنا منه قريبًا{[17468]} فقال{[17469]} اجلس " . فجلس ، قال : " أتحبه لأمك ؟ " قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم " . قال : " أفتحبه لابنتك " ؟ قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك . قال : " ولا الناس يحبونه لبناتهم " ، قال : " أتحبه لأختك " ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : " ولا الناس يحبونه لأخواتهم " ، قال : " أفتحبه لعمتك " ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك . قال : " ولا الناس يحبونه لعماتهم " قال : " أفتحبه لخالتك " ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : " ولا الناس يحبونه لخالاتهم " قال : فوضع يده عليه وقال : " اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن{[17470]} فرجه " قال : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء{[17471]} .
وقال{[17472]} ابن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر ، حدثنا بَقيَّةُ ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن الهيثم بن مالك الطائي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له " {[17473]} .
وقوله { ولا تقربوا الزنى } تحريم .
و { الزنى } يمد ويقصر فمن قصره الآية ، وهي لغة جميع كتاب الله ، ومن مده قول الفرزدق : [ الطويل ]
أبا حَاضر من يزن يعرف زناؤه . . . ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا{[7546]}
ويروى أبا خالد ، و «الفاحشة » ما يستتر به من المعاصي لقبحه ، و { سبيلا } نصب على التمييز ، التقدير وساء سبيله سبيلاً ، أي لأنه يؤدي إلى النار .
عطف هذا النهي على النهي عن وأد البنات إيماء إلى أنهم كانوا يعدون من أعذارهم في وأد البنات الخشية من العار الذي قد يلحق من جراء إهمال البنات الناشىء عن الفقر الرامي بهن في مهاوي العهر ، ولأن في الزنى إضاعة نسب النسل بحيث لا يعرف للنسل مرجع يأوي إليه وهو يشبه الوأد في الإضاعة .
وجرى الإضمار فيه بصيغة الجمع كما جرى في قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] لمثل ما وجه به تغيير الأسلوب هنالك فإن المنهي عنه هنا كان من غالب أحوال أهل الجاهلية .
وهذه الوصية الثامنة من الوصايا الإلهية بقوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] .
والقرب المنهي عنه هو أقل الملابسة ، وهو كناية عن شدة النهي عن ملابسة الزنا ، وقريب من هذا المعنى قولهم : ما كاد يفعل .
والزنى في اصطلاح الإسلام مجامعة الرجل امرأة غير زوجة له ولا مملوكةٍ غير ذات الزوج . وفي الجاهية الزنى : مجامعة الرجل امرأة حرة غير زوج له وأما مجامعة الأمة غير المملوكة للرجل فهو البغاء .
وجملة { إنه كان فاحشة } تعليل للنهي عن ملابسته تعليلاً مبالغاً فيه من جهات بوصفه بالفاحشة الدال على فَعلة بالغة الحد الأقصى في القبح ، وبتأكيد ذلك بحرف التوكيد ، وبإقحام فعل ( كان ) المؤذن بأن خبره وصف راسخ مستقر ، كما تقدم في قوله : { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } [ الإسراء : 27 ] .
والمراد : أن ذلك وصف ثابت له في نفسه سواء علمه الناس من قبل أم لم يعلموه إلا بعد نزول الآية .
وأتبع ذلك بفعل الذم وهو { ساء سبيلا } ، والسبيل : الطريق . وهو مستعار هنا للفعل الذي يلازمه المرء ويكون له دأباً استعارة مبنية على استعارة السير للعمل كقوله تعالى : { سنعيدها سيرتها الأولى } [ طه : 21 ] ، فبني على استعارة السير للعمل استعارة السبيل له بعلاقة الملازمة . وقد تقدم نظيرها في قوله : { إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا } في سورة [ النساء : 22 ] .
وعناية الإسلام بتحريم الزنى لأن فيه إضاعة النسب وتعريض النسل للإهمال إن كان الزنى بغير متزوجة وهو خلل عظيم في المجتمع ، ولأن فيه إفساد النساء على أزواجهن والأبكار على أوليائهن ، ولأن فيه تعريضَ المرأة إلى الإهمال بإعراض الناس عن تزوجها ، وطلاق زوجها إياها ، ولما ينشأ عن الغيرة من الهرج والتقاتل ، قال امرؤ القيس :
فالزنى مئنة لإضاعة الأنساب ومَظنّةٌ للتقاتل والتهارج فكان جديراً بتغليظ التحريم قصداً وتوسلاً . ومن تأمل ونظر جزم بما يشتمل عليه الزنى من المفاسد ولو كان المتأمل ممن يفعله في الجاهلية فقبحه ثابت لذاته ، ولكن العقلاء متفاوتون في إدراكه وفي مقدار إدراكه ، فلما أيقظهم التحريم لم يبق للناس عذر . وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة ولا وجه لذلك الزعم . وقد أشرنا إلى إبطال ذلك في أول السورة .