اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا} (32)

فصل

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( 32 )

لمَّا أمره بالأشياء الخمسة المتقدِّم ذكرها ، وحاصلها يرجع إلى شيئين : التعظيم لأمر الله تعالى ، والشَّفقة على خلق الله سبحانه - جلَّ ذكره - لا إله إلاَّ هو ، أتبعها بالنَّهي عن أشياء أخر .

أولها : أنه تعالى نهى عن الزّنا .

والعامة على قصره ، وهي اللغة الفاشية ، وقرئ بالمدِّ ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه لغة في المقصور .

والثاني : أنه مصدر زانى يُزانِي ؛ كقاتل يقاتل قتالاً ؛ لأنه يكون بين اثنين ، وعلى المدِّ قول الفرزدق : [ الطويل ]

أبَا خَالدٍ من يَزْنِ يُعرَفْ زِنَاؤهُ *** ومَنْ يَشرَبِ الخُرطُومَ يُصبِحْ مُسَكَّرا{[20385]}

وقول الآخر : [ الكامل ]

كَانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كَمَا *** كَانَ الزِّناءُ فَريضةَ الرَّجْمِ{[20386]}

وليس ذلك على باب الضرورة ، لثبوته قراءة في الجملة .

وقوله تعالى : { وَسَآءَ سَبِيلاً } . قال ابن عطيَّة : " وسبيلاَ : نصبٌ على التمييز ، أي : وسَاءَ سَبِيلاً سَبِيلهُ " . وردَّ أبو حيَّان{[20387]} هذا : بأنَّ قوله نصبٌ على التَّمييز يقتضي أن يكون الفاعل ضميراً مفسَّراً بما بعده من التمييز ؛ فلا يصح تقديره : سَاءَ سبيلهُ سَبِيلاً ؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم الجنسِ .

فصل

قال القفال{[20388]} : إذا قيل للإنسان : لا تقرب هذا ، فهو آكد من أن تقول : لا تفعله ، ثم علَّل هذا النَّهي بكونه { فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } .

واعلم أنَّ الزِّنا اشتمل على أنواع من المفاسد .

أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها ، فلا يعرف الإنسان أنَّ الولد الذي أتت به الزانية منه أو من غيره ، فلا يقوم بتربيته ، وذلك يوجب ضياع الأولاد ، وانقطاع النَّسل ، وخراب العالم .

وثانيها : أنه إذا لم يوجد سبب شرعيٌّ يوجب اختصاص هذا الرجل بهذه المرأة ، لم يبق إلاَّ التواثب والتقاتل ، وقد وجد وقوع القتل الذَّريع بسبب زنا المرأة الواحدة .

وثالثها : أنَّ المرأة ، إذا زنت وتمرَّنت عليه ، يستقذرها كل ذي عقل سليم ، وحينئذٍ : لا تحصل الألفة والمحبَّة ، ولا يتم السَّكن والازدواج ، وينفر طباعُ أكثر الخلق عن مقاربتها .

ورابعها : أنَّه إذا انفتح باب الزِّنا ، لا يبقى لرجلٍ اختصاص بامرأةٍ ، بل كل رجل يمكنه التواثب على أيِّ امرأة أرادت ، وحينئذ : لا يبقى بين نوع الإنسان وسائر البهائم فرقٌ في هذا .

وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة مجرّد قضاء الشهوة ، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهمَّاته من المطعوم والمشروب والملبوس ، وحفظ البيت ، والقيام بأمُور الأولاد والخدم ، وهذه المهماتُ لا تتم إلاَّ إذا كانت المرأة مقصورة الهمَّة على هذا الرجل الواحد ، منقطعة الطَّمع عن سائر الرِّجال ، وذلك لا يحصل إلاَّ بتحريم الزِّنا ، وسدّ هذا الباب .

وسادسها : أنَّ الوطء يوجب الذلَّ الشديد ، ويدلُّ على ذلك وجوهٌ :

الأول : أن أعظم أنواع الشَّتم عند النَّاس ذكر ألفاظ الوقاع ، ولولا أن الوطء يوجبُ الذلَّ وإلاَّ لما كان الأمر كذلك .

الثاني : أنَّ جميع العقلاء يستنكفُون من ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم ، ولولا أن الوطء ذلٌّ ، وإلاَّ لما كان كذلك .

الثالث : أن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا خفية في الأوقات التي لا يطَّلع عليهم أحدٌ ، ولولا أنه موجبٌ للذلِّ ، وإلا لما كان الأمر كذلك ، فلما كان الوطء ذلاًّ ، كان السَّعي في تقليله موافقاً للعقول ، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعيٌ في تقليل ذلك العمل ، وما فيه من الذلِّ يجبر بالمنافع الحاصلة .

وأمَّا الزِّنا ، فإنه فتح لباب العمل القبيح ، ولا يجبر بشيءٍ من المنافع ، فيبقى على أصل المنع .

وإذا ثبت ذلك ، فنقول : إنه تعالى وصف الزِّنا بصفاتٍ ثلاثة : كونه { فَاحِشَةً وَمَقْتاً } [ النساء : 22 ] في آية أخرى { وَسَآءَ سَبِيلاً } أما كونه فاحشة ؛ فلاشتماله على الأمور المذكورة ، وأمَّا المقت فلأنَّ الزانية تصير ممقوتة مكروهة ؛ لما ذكرنا .

وأما كونه ساء سبيلاً : فهو ما ذكرنا من أنَّه لا يبقى فرقٌ بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث ، وبقاء الذلِّ والعيب والعارِ على المرأة من غير أن يجبر بشيءٍ من المنافع .


[20385]:ينظر البيت في البحر 6/30، مجاز القرآن 1/377، الصحاح [زنى] واللسان [زنى]، الجمهرة 3/255، الدر المصون 4/388.
[20386]:البيت للنابغة الجعدي ينظر: اللسان "زنى"، معاني الفراء 1/99، أمالي المرتضى 1/216، تأويل المشكل 199، الإنصاف 1/373، مجاز القرآن 1/377، الخزانة 9/203، البحر المحيط 6/30، الدر المصون 4/388 الصاحبي (172) سر الفصاحة (106).
[20387]:ينظر: البحر المحيط 6/30.
[20388]:ينظر: الفخر الرازي 20/158.