عرضت هذه السورة الكريمة أحوال القيامة ، وذكرت بما أصاب الأمم السابقة من الهلاك ، والأخذ الشديد حين كذبوا ، وتحدثت عن النفخ في الصور ، وما يصيب الأرض والجبال والسماء من التغير والزوال ، وما يكون بعد ذلك من العرض للحساب ، وبشرت أصحاب اليمين بما يلقون من جزاء كريم ونعيم مقيم ، وأنذرت أصحاب الشمال بالحسرة والعذاب الأليم ، وختمت بالحديث عن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغه ، وعن صدق القرآن الذي هو حق اليقين .
{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ }
{ الْحَاقَّةُ } من أسماء يوم القيامة ، لأنها تحق وتنزل بالخلق ، وتظهر فيها حقائق الأمور ، ومخبآت الصدور .
سورة الحاقة مكية وآياتها ثنتان وخمسون
هذه سورة هائلة رهيبة ؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة ؛ وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس ، وتطالعه بالهول القاصم ، والجد الصارم ، والمشهد تلو المشهد ، كله إيقاع ملح على الحس ، بالهول آنا وبالجلال آنا ، وبالعذاب آنا ، وبالحركة القوية في كل آن !
والسورة بجملتها تلقي في الحس بكل قوة وعمق إحساسا واحدا بمعنى واحد . . أن هذا الأمر ، أمر الدين والعقيدة ، جد خالص حازم جازم . جد كله لا هزل فيه . ولا مجال فيه للهزل . جد في الدنيا وجد في الآخرة ، وجد في ميزان الله وحسابه . جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا . وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم ، وأخذه الحاسم . ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول . فالأمر أكبر من الرسول وأكبر من البشر . . إنه الحق . حق اليقين . من رب العالمين .
يبرز هذا المعنى في اسم القيامة المختار في هذه السورة ، والذي سميت به السورة : " الحاقة " . . وهي بلفظها وجرسها ومعناها تلقي في الحس معنى الجد والصرامة والحق والاستقرار . وإيقاع اللفظ بذاته أشبه شيء برفع الثقل طويلا ، ثم استقراره استقرارا مكينا . رفعه في مدة الحاء بالألف ، وجده في تشديد القاف بعدها ، واستقراره بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاء ساكنة .
ويبرز في مصارع المكذبين بالدين وبالعقيدة وبالآخرة قوما بعد قوم ، وجماعة بعد جماعة ، مصارعهم العاصفة القاصمة الحاسمة الجازمة : كذبت ثمود وعاد بالقارعة . فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية . فهل ترى لهم من باقية ? وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ، فعصوا رسول ربهم ، فأخذهم أخذة رابية . إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية ، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية . . وهكذا كل من تلفت عن هذا الأمر أخذ أخذة مروعة داهمة قاصمة ، تتناسب مع الجد الصارم الحاسم في هذا الأمر العظيم الهائل ، الذي لا يحتمل هزلا ، ولا يحتمل لعبا ، ولا يحتمل تلفتا عنه من هنا أو هناك !
ويبرز في مشهد القيامة المروع ، وفي نهاية الكون الرهيبة ، وفي جلال التجلي كذلك وهو أروع وأهول : ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة . وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ، فيومئذ وقعت الواقعة ، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية . . والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) . .
ذلك الهول . وهذا الجلال . يخلعان الجد الرائع الجليل على مشهد الحساب عن ذلك الأمر المهول . ويشاركان في تعميق ذلك المعنى في الحس مع سائر إيقاعات السورة وإيحاءاتها . هو وما بعده من مقالة الناجين والمعذبين : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول : هاؤم اقرؤوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه . . فقد نجا وما يكاد يصدق بالنجاة . . ( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول : يا ليتني لم أوت كتابيه ، ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . ما أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانيه ) . . بهذا التفجع الطويل ، الذي يطبع في الحس وقع هذا المصير . .
ثم يبدو ذلك الجد الصارم والهول القاصم في النطق العلوي بالقضاء الرهيب الرعيب ، في اليوم الهائل ، وفي الموقف الجليل : ( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . . وكل فقرة كأنها تحمل ثقل السماوات والأرض ، وتنقض في جلال مذهل ، وفي هول مروع ، وفي جد ثقيل . .
ثم ما يعقب كلمة القضاء الجليل ، من بيان لموجبات الحكم الرهيب ونهاية المذنب الرعيبة : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين . فليس له اليوم هاهنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون . .
ثم يبرز ذلك المعنى في التلويح بقسم هائل ، وفي تقرير الله لحقيقة الدين الأخير : ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ، ولا بقول كاهن ، قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين ) .
وأخيرا يبرز الجد في الإيقاع الأخير . وفي التهديد الجازم والأخذ القاصم لكل من يتلاعب في هذا الأمر أو يبدل . كائنا من كان ، ولو كان هو محمدا الرسول : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ) . . فهو الأمر الذي لا تسامح فيه ولا هوادة ولا لين . .
وعندئذ تختم السورة بالتقرير الجازم الحاسم والقول الفصل الأخير عن هذا الأمر الخطير : ( وإنه لتذكرة للمتقين . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين . . فسبح باسم ربك العظيم ) . . وهو الختام الذي يقطع كل قول ، ويلقي بكلمة الفصل ، وينتهي إلى الفراغ من كل لغو ، والتسبيح باسم الله العظيم . .
ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس ، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب :
إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية ، المتناهية الحيوية ، بحيث لا يملك منها فكاكا ، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة ، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة !
فهذه مصارع ثمود وعاد وفرعون وقرى لوط [ المؤتفكات ] حاضرة شاخصة ، والهول المروع يجتاح مشاهدها لا فكاك للحس منها . وهذا مشهد الطوفان وبقايا البشرية محمولة في الجارية مرسوما في آيتين اثنتين سريعتين . . ومن ذا الذي يقرأ : ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما . فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ? ) . . ولا يتمثل لحسه منظر العاصفة المزمجرة المحطمة المدمرة . سبع ليال وثمانية أيام . ومشهد القوم بعدها صرعى مجدلين ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ! ) .
وهو مشهد حي ماثل للعين ، ماثل للقلب ، ماثل للخيال ! وكذلك سائر مشاهد الأخذ الشديد العنيف في السورة .
ثم هذه مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون . هذه هي تخايل للحس ، وتقرقع حوله ، وتغمره بالرعب والهول والكآبة . ومن ذا الذي يسمع : ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ) . . ولا يسمع حسه القرقعة بعد ما ترى عينه الرفعة ثم الدكة ! ! ومن الذي يسمع : ( وانشقت السماء فهي يومئذ واهية . والملك على أرجائها ) . . ولا يتمثل خاطره هذه النهاية الحزينة ، وهذا المشهد المفجع للسماء الجميلة المتينة ? ! ثم من الذي لا يغمر حسه الجلال والهول وهو يسمع : ( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية . يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) . .
ومشهد الناجي الآخذ كتابه بيمينه والدنيا لا تسعه من الفرحة ، وهو يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه في رنة الفرح والغبطة : هاؤم اقرؤوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه !
ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله . والحسرة تئن في كلماته ونبراته وإيقاعاته : ( يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . ما أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانيه ) .
ومن ذا الذي لا يرتعش حسه ، وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب : خذوه ، فغلوه ، ثم الجحيم صلوه ، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه . . . الخ . . وهو يشهد كيف يتسابق المأمورون إلى تنفيذ الأمر الرهيب الجليل في ذلك البائس الحسير !
وحاله هناك : فليس له اليوم هاهنا حميم ، ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون .
وأخيرا فمن ذا الذي لا تأخذه الرجفة وتلفه الرهبة ، وهو يتمثل في الخيال صورة التهديد الشديد : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل ، لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ! ) . .
إنها مشاهد من القوة والحيوية والحضور بحيث لا يملك الحس أن يتلفت عنها طوال السورة ، وهي تلح عليه ، وتضغط ، وتتخلل الأعصاب والمشاعر في تأثير حقيقي عنيف !
ويشارك إيقاع الفاصلة في السورة ، برنته الخاصة وتنوع هذه الرنة ، وفق المشاهد والمواقف في تحقيق ذلك التأثير الحي العميق . . فمن المد والتشديد والسكت في مطلع السورة :
( الحاقة . ما الحاقة ? وما أدراك ما الحاقة ? ) . . إلى الرنة المدوية في الياء والهاء الساكنة بعدها . سواء كانت تاء مربوطة يوقف عليها بالسكون ، أو هاء سكت مزيدة لتنسيق الإيقاع ، طوال مشاهد التدمير في الدنيا والآخرة ، ومشاهد الفرحة والحسرة في موقف الجزاء . ثم يتغير الإيقاع عند إصدار الحكم إلى رنة رهيبة جليلة مديدة : ( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . . . ) . . ثم يتغير مرة أخرى عند تقرير أسباب الحكم ، وتقرير جدية الأمر ، إلى رنة رزينة جادة حاسمة ثقيلة مستقرة على الميم أو النون : نه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين . فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين . . ( وإنه لحق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم ) . .
وهذا التغير في حرف الفاصلة وفي نوع المد قبلها وفي الإيقاع كله ظاهرة ملحوظة تتبع تغير السياق والمشاهدوالجو ، وتتناسق مع الموضوع والصور والظلال تمام التناسق . وتشارك في إحياء المشاهد وتقوية وقعها على الحس . في السورة القوية الإيقاع العميقة التأثير .
إنها سورة هائلة رهيبة . قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة . وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل ، ومن كل تعليق !
( الحاقة . ما الحاقة ? . وما أدراك ما الحاقة ? ) . .
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة . ومن ثم تبدأ السورة باسمها ، وتسمى به ، وهو اسم مختار بجرسه ومعناه كما أسلفنا . فالحاقة هي التي تحق فتقع . أو تحق فتنزل بحكمها على الناس . أو تحق فيكون فيها الحق . . وكلها معان تقريرية جازمة تناسب اتجاه السورة وموضوعها . ثم هي بجرسها كما بينا من قبل تلقي إيقاعا معينا يساوق هذا المعنى الكامن فيها ، ويشارك في إطلاق الجو المراد بها ؛ ويمهد لما حق على المكذبين بها . في الدنيا وفي الآخرة جميعا .
والجو كله في السورة جو جد وجزم ، كما أنه جو هول وروع . وهو يوقع في الحس إلى جانب ما أسلفنا في التقديم ، شعورا بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة ، وبضآلة الكائن الإنساني تجاه هذه القدرة من جهة أخرى ؛ وأخذها له أخذا شديدا في الدنيا والآخرة ، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا النهج الذي يريده الله للبشرية ، ممثلا فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة ؛ فهو لا يجيء ليهمل ، ولا ليبدل ، إنما يجيء ليطاع ويحترم ، ويقابل بالتحرج والتقوى . وإلا فهناك الأخذ والقصم ، وهناك الهول والروع .
والألفاظ في السورة بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب ، وبدلالة التركيب كله . . تشترك في إطلاق هذا الجو وتصويره . فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة ، لا خبر لها في ظاهر اللفظ : ( الحاقة ) . .
سميت { سورة الحاقة } في عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وروى أحمد بن حنبل أن عمر ابن الخطاب قال خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت : هذا والله شاعر ، أي قلت في خاطري ، فقرأ { وما هو بقول شاعر قليل ما تؤمنون } قلت : كاهن ، فقرأ { ولا بقول كاهن قليل ما تذكرون تنزيل من رب العالمين } إلى آخر السورة ، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع .
وباسم { الحاقة } عنونت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير . وقال الفيروز أبادي في بصائر ذوي التمييز : إنها تسمى أيضا سورة السلسلة لقوله { ثم في سلسلة } وسماها الجعبري في منظومته في ترتيب نزول السور الواعية ولعله أخذه من وقوع قوله { وتعيها أذن واعية } ولم أر سلفا في هذه التسمية .
ووجه تسميتها « سورة الحاقة » وقوع هذه الكلمة في أولها ولم تقع في غيرها من سور القرآن .
وهي مكية بالاتفاق . ومقتضى الخبر المذكور عن عمر بن الخطاب أنها نزلت في السنة الخامسة قبل الهجرة فإن عمر أسلم بعد هجرة المهاجرين إلى الحبشة وكانت الهجرة إلى الحبشة سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة .
وقد عدت هذه السورة السابعة والسبعين في عداد ترتيب النزول . نزلت بعد سورة تبارك وقبل سورة المعارج .
وانفق العادون من أهل الأمصار على عد آيها إحدى وخمسين آية .
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة . وتهديد المكذبين بوقوعه .
وتذكيرهم بما حل بالأمم التي كذبت به من عذاب في الدنيا ثم عذاب الآخرة وتهديد المكذبين برسل الله تعالى بالأمم التي أشركت وكذبت .
وأدمج في ذلك أن الله نجى المؤمنين من العذاب ، وفي ذلك تذكير بنعمة الله على البشر إذ أبقى نوعهم بالإنجاء من الطوفان .
ووصف أهوال من الجزاء وتفاوت الناس يومئذ فيه ، ووصف فظاعة حال العقاب على الكفر وعلى نبذ شريعة الإسلام ، والتنويه بالقرآن .
وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أن يكون غير رسول .
وتنزيه الله تعالى عن أن يقر من يتقول عليه .
{ الحاقة } صيغة فاعِل من : حقّ الشِيء إذا ثبت وقوعه ، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون { الحاقة } وصفاً لموصوف مقدر مؤنث اللفظ ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب ، والخاتمة للختم ، والباقية للبقاء والطاغية للطغيان ، والنافلة ، والخاطئة ، وأصلها تاء المرة ، ولكنها لما أريد المصدر قُطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فَعْلة غير مراد به المرة مثل قولهم ضَربة لاَزِب . فالحاقة إذْن بمعنى الحق كما يقال « مِن حاقِّ كذا » ، أي من حقه .
وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقّة المعنى الوصفي ، أي حادثة تحق أو حَقٌّ يحق .
ويجوز أن يكون المراد بها لَقباً ليوم القيامة ، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك « يوم القيامة » لأنه يوم محقق وقوعُه ، كما قال تعالى : { وتنذِر يوم الجمع لا ريب فيه } [ الشورى : 7 ] ، أو لأنه تحق فيه الحقوق ولا يضاع الجزاء عليها ، قال تعالى { ولا تُظلمون فتيلاً } [ النساء : 49 ] وقال : { فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يَره } [ الزلزلة : 78 ] .
وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإِيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم .
فيجوز أيضاً أن تكون { الحاقة } وصفاً لموصوف محذوف تقديره : الساعة الحاقة ، أو الواقعة الحاقة ، فيكون تهديداً بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرَّض بهم مثل يوم بدر أو وقعتِه وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه ؛ أو وصفاً للكلمة ، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة ، قال تعالى : { كذلك حَقَّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار } [ غافر : 6 ] ، أو التي حقّت للنبيء صلى الله عليه وسلم أنه ينصره الله ، قال تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتولّ عنهم حتى حين } [ الصافات : 171174 ] .
ويجوز أن تكون مصدراً بمعنى الحق ، فيصح أن يكون وصفاً ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى : { واقترب الوعد الحق } [ الأنبياء : 97 ] ، أو وصفاً للقرآن كقوله : { إن هذا لهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] ، أو أريد به الحق كله مما جاء به القرآن من الحق قال تعالى : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } [ الجاثية : 29 ] وقال : { إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق } [ الأحقاف : 30 ] .
وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين .
و { الحاقّة } مبتدأ و { مَا } مبتدأ ثان . و { الحاقّة } المذكورة ثانياً خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ذكر حديث القيامة وما أعد الله تعالى لأهل السعادة وأهل الشقاوة، وأدرج بينهما شيئاً من أحوال الذين كذبوا الرسل، كعاد وثمود وفرعون، ليزدجر بذكرهم وما جرى عليهم الكفار الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت العرب عالمة بهلاك عاد وثمود وفرعون، فقص عليهم ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
تنزيه الخالق ببعث الخلائق لإحقاق الحق وإزهاق الباطل بالكشف التام لشمول العلم للكليات والجزئيات، وكمال القدرة على العلويات والسفليات، وإظهار العدل بين سائر المخلوقات، ليميز المسلم من المجرم بالملذذ والمؤلم، وتسميتها بالحاقة في غاية الوضوح في ذلك، وهو أدل ما فيها عليه.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
أخرج الطبراني عن أبي برزة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بالحاقة ونحوها».
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فوقفت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن؛ فقلت: هذا والله شاعر، فقال:"وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون"، قلت: كاهن، فقال: "ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل... "إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.
ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا، شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم، وضمنه عز وجل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام وما جرى عليهم، ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه سورة هائلة رهيبة؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة؛ وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس، وتطالعه بالهول القاصم، والجد الصارم، والمشهد تلو المشهد، كله إيقاع ملح على الحس، بالهول آنا وبالجلال آنا، وبالعذاب آنا، وبالحركة القوية في كل آن! والسورة بجملتها تلقي في الحس بكل قوة وعمق إحساسا واحدا بمعنى واحد.. أن هذا الأمر، أمر الدين والعقيدة، جد خالص حازم جازم. جد كله لا هزل فيه. ولا مجال فيه للهزل. جد في الدنيا وجد في الآخرة، وجد في ميزان الله وحسابه. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا. وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم، وأخذه الحاسم. ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول. فالأمر أكبر من الرسول وأكبر من البشر.. إنه الحق. حق اليقين. من رب العالمين. يبرز هذا المعنى في اسم القيامة المختار في هذه السورة، والذي سميت به السورة: "الحاقة".. وهي بلفظها وجرسها ومعناها تلقي في الحس معنى الجد والصرامة والحق والاستقرار. وإيقاع اللفظ بذاته أشبه شيء برفع الثقل طويلا، ثم استقراره استقرارا مكينا. رفعه في مدة الحاء بالألف، وجده في تشديد القاف بعدها، واستقراره بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاء ساكنة. ويبرز في مصارع المكذبين بالدين وبالعقيدة وبالآخرة قوما بعد قوم، وجماعة بعد جماعة، مصارعهم العاصفة القاصمة الحاسمة الجازمة: كذبت ثمود وعاد بالقارعة. فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية. سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية. فهل ترى لهم من باقية؟ وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة، فعصوا رسول ربهم، فأخذهم أخذة رابية. إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية.. وهكذا كل من تلفت عن هذا الأمر أخذ أخذة مروعة داهمة قاصمة، تتناسب مع الجد الصارم الحاسم في هذا الأمر العظيم الهائل، الذي لا يحتمل هزلا، ولا يحتمل لعبا، ولا يحتمل تلفتا عنه من هنا أو هناك! ويبرز في مشهد القيامة المروع، وفي نهاية الكون الرهيبة، وفي جلال التجلي كذلك وهو أروع وأهول: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة. وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة، فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية.. والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية).. ذلك الهول. وهذا الجلال. يخلعان الجد الرائع الجليل على مشهد الحساب عن ذلك الأمر المهول. ويشاركان في تعميق ذلك المعنى في الحس مع سائر إيقاعات السورة وإيحاءاتها. هو وما بعده من مقالة الناجين والمعذبين: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه.. فقد نجا وما يكاد يصدق بالنجاة.. (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول: يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه).. بهذا التفجع الطويل، الذي يطبع في الحس وقع هذا المصير.. ثم يبدو ذلك الجد الصارم والهول القاصم في النطق العلوي بالقضاء الرهيب الرعيب، في اليوم الهائل، وفي الموقف الجليل: (خذوه. فغلوه. ثم الجحيم صلوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه).. وكل فقرة كأنها تحمل ثقل السماوات والأرض، وتنقض في جلال مذهل، وفي هول مروع، وفي جد ثقيل.. ثم ما يعقب كلمة القضاء الجليل، من بيان لموجبات الحكم الرهيب ونهاية المذنب الرعيبة: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين. فليس له اليوم هاهنا حميم. ولا طعام إلا من غسلين. لا يأكله إلا الخاطئون.. ثم يبرز ذلك المعنى في التلويح بقسم هائل، وفي تقرير الله لحقيقة الدين الأخير: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون. إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين). وأخيرا يبرز الجد في الإيقاع الأخير. وفي التهديد الجازم والأخذ القاصم لكل من يتلاعب في هذا الأمر أو يبدل. كائنا من كان، ولو كان هو محمدا الرسول: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين).. فهو الأمر الذي لا تسامح فيه ولا هوادة ولا لين.. وعندئذ تختم السورة بالتقرير الجازم الحاسم والقول الفصل الأخير عن هذا الأمر الخطير: (وإنه لتذكرة للمتقين. وإنا لنعلم أن منكم مكذبين. وإنه لحسرة على الكافرين. وإنه لحق اليقين.. فسبح باسم ربك العظيم).. وهو الختام الذي يقطع كل قول، ويلقي بكلمة الفصل، وينتهي إلى الفراغ من كل لغو، والتسبيح باسم الله العظيم.. ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب: إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية، المتناهية الحيوية، بحيث لا يملك منها فكاكا، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة! فهذه مصارع ثمود وعاد وفرعون وقرى لوط [المؤتفكات] حاضرة شاخصة، والهول المروع يجتاح مشاهدها لا فكاك للحس منها. وهذا مشهد الطوفان وبقايا البشرية محمولة في الجارية مرسوما في آيتين اثنتين سريعتين.. ومن ذا الذي يقرأ: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية. سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما. فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟).. ولا يتمثل لحسه منظر العاصفة المزمجرة المحطمة المدمرة. سبع ليال وثمانية أيام. ومشهد القوم بعدها صرعى مجدلين (كأنهم أعجاز نخل خاوية!). وهو مشهد حي ماثل للعين، ماثل للقلب، ماثل للخيال! وكذلك سائر مشاهد الأخذ الشديد العنيف في السورة. ثم هذه مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون. هذه هي تخايل للحس، وتقرقع حوله، وتغمره بالرعب والهول والكآبة. ومن ذا الذي يسمع: (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة).. ولا يسمع حسه القرقعة بعد ما ترى عينه الرفعة ثم الدكة!! ومن الذي يسمع: (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية. والملك على أرجائها).. ولا يتمثل خاطره هذه النهاية الحزينة، وهذا المشهد المفجع للسماء الجميلة المتينة؟! ثم من الذي لا يغمر حسه الجلال والهول وهو يسمع: (والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية. يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).. ومشهد الناجي الآخذ كتابه بيمينه والدنيا لا تسعه من الفرحة، وهو يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه في رنة الفرح والغبطة: هاؤم اقرؤوا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه! ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله. والحسرة تئن في كلماته ونبراته وإيقاعاته: (يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه). ومن ذا الذي لا يرتعش حسه، وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب: خذوه، فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه... الخ.. وهو يشهد كيف يتسابق المأمورون إلى تنفيذ الأمر الرهيب الجليل في ذلك البائس الحسير! وحاله هناك: فليس له اليوم هاهنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين. لا يأكله إلا الخاطئون. وأخيرا فمن ذا الذي لا تأخذه الرجفة وتلفه الرهبة، وهو يتمثل في الخيال صورة التهديد الشديد: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين!).. إنها مشاهد من القوة والحيوية والحضور بحيث لا يملك الحس أن يتلفت عنها طوال السورة، وهي تلح عليه، وتضغط، وتتخلل الأعصاب والمشاعر في تأثير حقيقي عنيف! ويشارك إيقاع الفاصلة في السورة، برنته الخاصة وتنوع هذه الرنة، وفق المشاهد والمواقف في تحقيق ذلك التأثير الحي العميق.. فمن المد والتشديد والسكت في مطلع السورة: (الحاقة. ما الحاقة؟ وما أدراك ما الحاقة؟).. إلى الرنة المدوية في الياء والهاء الساكنة بعدها. سواء كانت تاء مربوطة يوقف عليها بالسكون، أو هاء سكت مزيدة لتنسيق الإيقاع، طوال مشاهد التدمير في الدنيا والآخرة، ومشاهد الفرحة والحسرة في موقف الجزاء. ثم يتغير الإيقاع عند إصدار الحكم إلى رنة رهيبة جليلة مديدة: (خذوه. فغلوه. ثم الجحيم صلوه...).. ثم يتغير مرة أخرى عند تقرير أسباب الحكم، وتقرير جدية الأمر، إلى رنة رزينة جادة حاسمة ثقيلة مستقرة على الميم أو النون: نه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين. فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين.. (وإنه لحق اليقين. فسبح باسم ربك العظيم).. وهذا التغير في حرف الفاصلة وفي نوع المد قبلها وفي الإيقاع كله ظاهرة ملحوظة تتبع تغير السياق والمشاهد والجو، وتتناسق مع الموضوع والصور والظلال تمام التناسق. وتشارك في إحياء المشاهد وتقوية وقعها على الحس. في السورة القوية الإيقاع العميقة التأثير. إنها سورة هائلة رهيبة. قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة. وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل، ومن كل تعليق!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت {سورة الحاقة} في عهد النبي صلى الله عليه وسلم... وباسم {الحاقة} عنونت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير. وقال الفيروز أبادي في بصائر ذوي التمييز: إنها تسمى أيضا سورة السلسلة لقوله {ثم في سلسلة}. وسماها الجعبري في منظومته في ترتيب نزول السور: الواعية، ولعله أخذه من وقوع قوله:
{وتعيها أذن واعية}، ولم أر سلفا في هذه التسمية.
ووجه تسميتها « سورة الحاقة» وقوع هذه الكلمة في أولها، ولم تقع في غيرها من سور القرآن. وهي مكية بالاتفاق. ومقتضى الخبر المذكور عن عمر بن الخطاب أنها نزلت في السنة الخامسة قبل الهجرة فإن عمر أسلم بعد هجرة المهاجرين إلى الحبشة وكانت الهجرة إلى الحبشة سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة...
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة، وتهديد المكذبين بوقوعه، وتذكيرهم بما حل بالأمم التي كذبت به من عذاب في الدنيا ثم عذاب الآخرة، وتهديد المكذبين برسل الله تعالى بالأمم التي أشركت وكذبت.
وأدمج في ذلك أن الله نجى المؤمنين من العذاب، وفي ذلك تذكير بنعمة الله على البشر، إذ أبقى نوعهم بالإنجاء من الطوفان.
ووصفِ أهوال من الجزاء وتفاوت الناس يومئذ فيه،
ووصف فظاعة حال العقاب على الكفر وعلى نبذ شريعة الإسلام،
وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أن يكون غير رسول.
وتنزيه الله تعالى عن أن يقر من يتقول عليه.
وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم. وإنذار المشركين بتحقيق الوعيد الذي في القرآن...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه السورة المكية تتحرك كأمثالها من السور المكية في إيقاظ العقل البشري والروح الإنسانية وتوجيههما الى الأساس العقيدي الذي يرتكز عليه الإسلام، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، وهي تتحرك في فصول ثلاثة:
فالفصل الأول: يثير تاريخ الأمم السالفة الذين كفروا بالله فأخذهم بذنوبهم. والفصل الثاني: حول يوم القيامة، وانقسام الناس فيه إلى أهل اليمين وأهل الشمال في مصيرهم المختلف بين الجنة والنار.
وفي الفصل الثالث: حديثٌ عن القرآن، وكيف تحدث الكفار عنه، وكيف هو في حقيقته النازلة من الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. حتى أن النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) وهو صاحب الرسالة لا يجرؤ على أن يزيد فيه كلمة واحدة، لأن الله سوف يأخذ بيده، فالله يريده تذكرةً للمتقين، لينطلق إيمانهم من خلال الصفاء الذي يمثله حق اليقين. أمّا عنوان السورة فقد كان يتناول المسألة الأساس في بدايتها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تدور موضوعات سورة الحاقّة حول ثلاثة محاور:
المحور الأوّل: وهو أهمّ محاور هذه السورة، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان خصوصياتها، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي: (الحاقّة) و (القارعة) و (الواقعة).
أمّا المحور الثاني: فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين، خصوصاً قوم عاد وثمود وفرعون، وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكّفار ومنكري يوم البعث والنشور.
وتتحدّث أبحاث المحور الثالث: حول عظمة القرآن الكريم، ومقام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجزاء المكذّبين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الساعة الْحاقّةُ التي تحقّ فيها الأمور، ويجب فيها الجزاء على الأعمال... عن عكرِمة قال:"الْحاقّةُ": القيامة...
عن قتادة "الْحاقّةُ "قال: أحقت لكلّ قوم أعمالهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الحاقة} {ما الحاقة}؟ قد ذكرنا أن يوم القيامة سمي بأسماء النوازل التي تكون من البلايا والشدائد ليقع بها التخويف والتهويل، وليس في تبيين وقته ولا في ذكر عينه ترهيب ولا ترغيب. فذكر ذلك اليوم بالأسباب التي هي أسباب الزجر والردع: فقوله تعالى: {الحاقة} أي حقت لكل عامل عمله، ويحق لكل ذي حق حقه، فإن كان من أهل النار استوجبها، وإن كان من أهل الجنة دخلها.
وقال بعضهم: {الحاقة} هي النازلة التي لا ترفع أبدا، وهي ما ينزل بالخلق من الجزاء، وأنواع ما وعدوا به يوم القيامة.
والأصل أن القيامة. سميت بالأحوال التي يبتلى الخلق بها من نحو: {القارعة} [القارعة: 1] و: {الواقعة} [الواقعة: 1] و: {التناد} [غافر: 32] و: {الصاخة} [عبس: 33] ونحو ذلك مما جاء في القرآن أخذت أسماؤها من أحوال ما يبتلى الخلق بها، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
"الحاقة ": اسمٌ للقيامة لأنها تَحُقُّ كلَّ إنسانٍ بعملهِ خَيْرِه وشَرِّه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الحاقة} الساعة التي تحق فيها الأمور، أي: تعرف على الحقيقة، من قولك: لا أحق هذا، أي: لا أعرف حقيقته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قدم سبحانه في "نون " الإنكار الشديد لأن يسوي المسيء بالمحسن، وذكر القيامة وبينها بيوم كشف الساق وزيادة المشاق، وهدد التهديد العظيم بآية الاستدراج الذي لا يدفع بعلاج، وختم بأن القرآن ذكر -أي شرف- وتذكير، ومواعظ للعالمين في شمولهم كلهم برحمته، أما من بعد إنزاله فبوعيده ووعده ووعظه وقصه وأمره ونهيه، وأما من قبل إنزاله فبالشهادة لهم وعليهم، وكان تأويل ذلك وجميع آثاره إنما يظهر ظهوراً تاماً يوم الجمع الأكبر، وكان ذلك اليوم أعظم مذكر للعالمين وواعظ لهم وزاجر، تنبني جميع الخيرات على تذكره وتذكر العرض على الملك الديان، والسر في إنزال القرآن هو التذكير بذلك اليوم الذي هو نظام الوجود، قال واصفاً للقيامة واليوم الذي يكشف فيه عن ساق، واعظاً بذكرها ومحذراً من أمرها: {الحاقة} أي الساعة التي يكذب بها هؤلاء وهي أثبت الأشياء وأجلاها فلا كاذبة لها ولا لشيء عنها، فلا بد من حقوقها فهي ثابتة في نفسها، ومن إحضار الأمور فيها بحقائقها، والمجازاة عليها بالحق الذي لا مرية فيه لأحد من الخلق، فهي فاعلة بمعنى مفعول فيها، وهي فاعلة أيضاً لأنها غالبة لكل خصم، فهي تحق الحق ولا بد، فتعلو الباطل فتدمغه وتزهقه فتحق العذاب للمجرمين والثواب للمسلمين، وكل ما فيها داثر على الثبات والبيان، لأن ذلك مقتضى الحكمة ولا يرضى لأحد من الحكام ترك رعيته بغير إنصاف بينهم على زعمه فكيف بالحكيم العليم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(الحاقة. ما الحاقة؟. وما أدراك ما الحاقة؟)..
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة. ومن ثم تبدأ السورة باسمها، وتسمى به، وهو اسم مختار بجرسه ومعناه كما أسلفنا. فالحاقة هي التي تحق فتقع. أو تحق فتنزل بحكمها على الناس. أو تحق فيكون فيها الحق.. وكلها معان تقريرية جازمة تناسب اتجاه السورة وموضوعها. ثم هي بجرسها كما بينا من قبل تلقي إيقاعا معينا يساوق هذا المعنى الكامن فيها، ويشارك في إطلاق الجو المراد بها؛ ويمهد لما حق على المكذبين بها. في الدنيا وفي الآخرة جميعا.
والجو كله في السورة جو جد وجزم، كما أنه جو هول وروع. وهو يوقع في الحس إلى جانب ما أسلفنا في التقديم، شعورا بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة، وبضآلة الكائن الإنساني تجاه هذه القدرة من جهة أخرى؛ وأخذها له أخذا شديدا في الدنيا والآخرة، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا النهج الذي يريده الله للبشرية، ممثلا فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة؛ فهو لا يجيء ليهمل، ولا ليبدل، إنما يجيء ليطاع ويحترم، ويقابل بالتحرج والتقوى. وإلا فهناك الأخذ والقصم، وهناك الهول والروع.
والألفاظ في السورة بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب، وبدلالة التركيب كله.. تشترك في إطلاق هذا الجو وتصويره. فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة، لا خبر لها في ظاهر اللفظ: (الحاقة)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الحاقة بمعنى الحق كما يقال « مِن حاقِّ كذا»، أي من حقه. أي حادثة تحق أو حَقٌّ يحق. ويجوز أن يكون المراد بها لَقباً ليوم القيامة.
وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام، فيكون ذلك من الإِيجاز البديع، لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم. فيجوز أيضاً أن تكون {الحاقة} وصفاً لموصوف محذوف تقديره: الساعة الحاقة، أو الواقعة الحاقة، فيكون تهديداً بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرَّض بهم مثل يوم بدر أو وقعتِه وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه؛ أو وصفاً للكلمة، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة، قال تعالى: {كذلك حَقَّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} [غافر: 6]، أو التي حقّت للنبيء صلى الله عليه وسلم أنه ينصره الله، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتولّ عنهم حتى حين} [الصافات: 171-174]. ويجوز أن تكون مصدراً بمعنى الحق، فيصح أن يكون وصفاً ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى: {واقترب الوعد الحق} [الأنبياء: 97]، أو وصفاً للقرآن كقوله: {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62]، أو أريد به الحق كله مما جاء به القرآن من الحق قال تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية: 29] وقال: {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق} [الأحقاف: 30]. وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الْحَاقَّةُ *مَا الْحَآقَّةُ} الكلمة مشتقة من الحق الذي يمثل الثبات، ولمّا كان يوم القيامة يمثل الحقيقة الدينية الثابتة التي لا مجال للشك فيها، فقد عبّر عنه بهذه الكلمة التي أريد لها أن تهزّ الضمير الإنساني في أعماقه عندما يتطلع في وعيه إلى اليوم الآخر الذي كان الجدل يثور حوله بين المؤمنين والمكذبين به، في ما يؤكده هؤلاء ويكذبه أولئك، فإذا بالصيحة تدوّي لتطلق الكلمة غير المألوفة لديهم في اشتقاقها، فتطرحها لتوحي بأن الآخرة هي الحاقّة في طبيعة تمثيلها للحق وهي التي تعطي الحق عمقه وامتداده...