{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا } وأيده الله بالمعجزات الباهرة ، الموجبة لتمام الإذعان ، لم يقابلوها بذلك ، ولم يكفهم مجرد الترك والإعراض ، بل ولا إنكارها ومعارضتها بباطلهم ، بل وصلت بهم الحال الشنيعة إلى أن { قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ } حيث كادوا هذه المكيدة ، وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم ، لم يقووا ، وبقوا في رقهم وتحت عبوديتهم .
فما كيدهم إلا في ضلال ، حيث لم يتم لهم ما قصدوا ، بل أصابهم ضد ما قصدوا ، أهلكهم الله وأبادهم عن آخرهم .
{[769]}وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب الله تعالى : إذا كان السياق في قصة معينة أو على شيء معين ، وأراد الله أن يحكم على ذلك المعين بحكم ، لا يختص به ذكر الحكم ، وعلقه على الوصف العام ليكون أعم ، وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلام لأجلها ، وليندفع الإيهام باختصاص الحكم بذلك المعين .
فلهذا لم يقل { وما كيدهم إلا في ضلال } بل قال : { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }
ويجمل السياق تفصيل ما حدث بعد هذا الجدال ، ويطوي موقف المباراة مع السحرة ، وإيمانهم بالحق الذي غلب باطلهم ولقف ما يأفكون . ويعرض الموقف الذي تلا هذه الأحداث :
( فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا : اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ) .
ويعقب عليه قبل أن تكمل الآية :
( وما كيد الكافرين إلا في ضلال ) . .
إنه منطق الطغيان الغليظ ، كلما أعوزته الحجة ، وخذله البرهان ، وخاف أن يستعلي الحق ، بما فيه من قوة وفصاحة ووضوح ، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب . كما استجاب السحرة الذين جيء بهم ليغلبوا موسى وما معه ، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار .
فأما فرعون وهامان وقارون فقالوا :
( اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ) . .
ولقد كان فرعون - في أيام مولد موسى - قد أصدر مثل هذا الأمر . وهناك أحد احتمالين فيما حدث بعد ذلك الأمر الأول . . الاحتمال الأول أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر كان قد مات وخلفه ابنه أو ولي عهده ، ولم يكن الأمر منفذاً في العهد الجديد ، حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد ، الذي كان يعرفه وهو ولي للعهد ، ويعرف تربيته في القصر ، ويعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور وترك الإناث من بني إسرائيل . فحاشيته تشير إلى هذا الأمر ، وتوحي بتخصيصه بمن آمنوا بموسى ، سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه . . والاحتمال الثاني : أنه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى ، ما يزال على عرشه . وقد تراخى تنفيذ الأمر الأول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته . فالحاشية تشير بتجديده ، وتخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب والتخويف .
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا } أي : بالبرهان القاطع الدال على أن الله تعالى أرسله إليهم ، { قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ } وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل . أما الأول : فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى ، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم ، أو لمجموع الأمرين . وأما الأمر الثاني : فللعلة الثانية ، لإهانة هذا الشعب ، ولكي يتشاءموا بموسى ، عليه السلام ؛ ولهذا قالوا : { أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] .
قال الله تعالى : { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ } أي : وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا يُنصروا عليهم ، إلا ذاهب وهالك في ضلال .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَآءَهُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوَاْ أَبْنَآءَ الّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ } .
يقول تعالى ذكره : فلما جاء موسى هؤلاء الذين أرسله الله إليهم بالحقّ من عندنا ، وذلك مجيئه إياهم بتوحيد الله ، والعمل بطاعته ، مع إقامة الحجة عليهم ، بأن الله ابتعثه إليهم بالدعاء إلى ذلك قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا بالله مَعَهُ من بني إسرائيل وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ يقول : واستبقوا نساءهم للخدمة .
فإن قال قائل : وكيف قيل فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسَى بالحَقّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ، وإنما كان قتل فرعون الولدان من بني إسرائيل حذار المولود الذي كان أخبر أنه على رأسه ذهاب ملكه ، وهلاك قومه ، وذلك كان فيما يقال قبل أن يبعث الله موسى نبيّا ؟ قيل : إن هذا الأمر بقتل أبناء الذين آمنوا مع موسى ، واستحياء نسائهم ، كان أمرا من فرعون وملئه من بعد الأمر الأوّل الذي كان من فرعون قبل مولد موسى ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا جاءَهُمْ بالحَقّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا مَعَهْ واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ قال : هذا قتل غير القتل الأوّل الذي كان .
وقوله : وَما كَيْدُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ يقول : وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جور عن سبيل الحقّ ، وصدّ عن قصد المحجة ، وأخذ على غير هدى .
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوة والحق من عند الله ، قال هؤلاء الثلاثة وأجمع رأيهم على أن يقتل أبناء بني إسرائيل أتباع موسى وشبانهم وأهل القوة منهم ، وأن يستحي النساء للخدمة والاسترقاق ، وهذا رجوع منهم إلى نحو القتل الأول الذي كان قبل ميلاد موسى ، ولكن هذا الأخير لم تتم فيه عزمة ، ولا أعانهم الله تعالى على شيء منه . قال قتادة : هذا قتل غير الأول الذي كان حذر المولود ، وسموا من ذكرنا من بني إسرائيل أبناء ، كما تقول لأنجاد القبيلة أو المدينة وأهل الظهور فيها : هؤلاء أبناء فلانة .
وقوله تعالى : { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل ولا نجحت لهم فيه سعاية ، بل أضل الله سعيهم وكيدهم .