( يحلفون باللّه لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) . .
يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، على طريقة المنافقين في كل زمان ، الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور ؛ ثم يجبنون عن المواجهة ، ويضعفون عن المصارحة ، فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم .
( واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) . .
فماذا يكون الناس ? وماذا تبلغ قوتهم ? ولكن الذي لا يؤمن باللّه عادة ولا يعنو له ، يعنو لإنسان مثله ويخشاه ؛ ولقد كان خيراً أن يعنو للّه الذي يتساوى أمامه الجميع ، ولا يذل من يخضع له ، إنما يذل من يخضع لعباده ، ولا يصغر من يخشاه ، إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد اللّه .
قال قتادة في قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الآية ، قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شر من الحمير . قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت أشر من الحمار . قال : فسعى بها الرجل إلى النبي{[13591]} صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : " ما حملك على الذي قلت ؟ " فجعل يلتعن ، ويحلف بالله ما قال ذلك . وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب . فأنزل الله ، عز وجل : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم : يحلف لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون بالله ليرضوكم فيما بلغكم عنهم من أذاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكرهم إياه ، بالطعن عليه والعيب له ، ومطابقتهم سرّا أهل الكفر عليكم بالله ، والأيمان الفاجرة أنهم ما فعلوا ذلك وإنهم لعلى دينكم ومعكم على من خالفكم ، يبتغون بذلك رضاكم . يقول الله جلّ ثناؤه : وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا ، إنْ كانُوا مُؤْمِنينَ يقول : إن كانوا مصدّقين بتوحيد الله ، مقرّين بوعده ووعيده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَحْلِفُونَ بالله لكم لِيُرْضُوكُمْ . . . الآية ، ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنَا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شرّ من الحمير قال : فسمعها رجل من المسلمين ، فقال : والله إن ما يقول محمد حقّ ، ولأنت شرّ من الحمار فسعى بها الرجل إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى الرجل فدعاه ، فقال له : «ما حَمَلَكَ على الذي قُلْتَ ؟ » فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك ، قال : وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صَدّق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله في ذلك : يَحْلِفُونَ باللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ واللّهُ وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ إنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ .
{ يحلفون بالله لكم } على معاذيركم فيما قالوا أو تخلفوا . { ليُرضوكم } لترضوا عنهم والخطاب للمؤمنين . { والله ورسوله أحق أن يُرضوه } أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق ، وتوحيد الضمير لتلازم الرضائين أو لأن الكلام في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإرضائه ، أو لأن التقدير والله أحق أن يرضوه والرسول كذلك . { إن كانوا مؤمنين } صدقا .
عدل عن أسلوب الحكاية عنهم بكلمة ومنهم ، لأنّ ما حكي هنا حال من أحوال جميعهم .
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، لإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنّ المنافقين يحلفون الأيمَان الكاذبة ، فلا تغرّهم أيمانهم ، فضمير يحلفون عائد إلى الذين يؤذون النبي .
والمراد : الحلف الكاذب ، بقرينة قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } ، أي بتركهم الأمور التي حلفوا لأجلها ، على أنّه قد عُلِم أنّ أيمانهم كاذبة ممّا تقدّم في قوله : { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون } [ التوبة : 42 ] .
فكاف الخطاب للمسلمين ، وذلك يدلّ على أنّ المنافقين يحلفون على التبرّئي ، ممّا يبلغ المسلمين من أقوالهم المؤذية للرسول عليه الصلاة والسلام ، وذلك يغيظ المسلمين وينكرهم عليهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن ذلك ، فلذلك قال الله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } أي أحقّ منكم بأن يرضوهما ، وسيأتي تعليل أحقّيّة الله ورسوله بأن يرضوهما في الآية التي بعدها فإرضاء الله بالإيمان به وبرسوله وتعظيمِ رسوله ، وإرضاءُ الرسول بتصديقه ومحبّته وإكرامه .
وإنّما أفرد الضمير في قوله : { أن يرضوه } مع أنّ المعاد اثنان لأنّه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين ، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير : واللَّهُ أحقّ أن يرضوه ورسولُه كذلك ، فيكون الكلام جملتين ثانيتهما كالاحتراس وحذفُ الخبر إيجاز . ومن نكتة ذلك الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين ، ومنه قول ضابىء بن الحارث :
ومَن يك أمسَى بالمدينة رَحْلُه *** فإنِّي وقيَّارٌ بهَا لَغَرِيب
التقدير : فإنّي لغريبٌ وقيارٌ بها غَريب أيضاً . لأنّ إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما .
والضمير المنصوب في { يرضوه } عائد إلى اسم الجلالة ، لأنّه الأهمّ في الخبر ، ولذلك ابتدىء به ، ألا ترى أنّ بيت ضابىء قد جاء في خبره المذكور لام الابتداء الذي هو من علائق ( إنّ ) الكائنة في الجملة الأولى ، دون الجملة الثانية ، وهذا الاستعمال هو الغالب .
وشرط { إن كانوا مؤمنين } ، مستعمل للحثّ والتوقّع لإيمانهم ، لأنّ ما حكي عنهم من الأحوال لا يبقى معه احتمال في إيمانهم ، فاستعمل الشرط للتّوقع وللحثّ على الإيمان . وفيه أيضاً تسجيل عليهم ، إن أعادوا مثل صنيعهم ، بأنّهم كافرون باللَّه ورسوله ، وفيه تعليم للمؤمنين وتحذير من غضب الله ورسوله .