{ 25 - 49 } { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ }
إلى آخر القصة{[429]} أي : ولقد أرسلنا رسولنا نوحا أول المرسلين إلى قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن الشرك فقال لهم : { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : بينت لكم ما أنذرتكم به ، بيانا زال به الإشكال .
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه . إني لكم نذير مبين . ألا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) . .
إنها تكاد تكون الألفاظ ذاتها التي أرسل بها محمد [ ص ] والتي تضمنها الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . وهذه المقاربة في ألفاظ التعبير عن المعنى الرئيسي الواحد مقصودة في السياق لتقرير وحدة الرسالة ووحدة العقيدة ، حتى لتتوحد ألفاظ التعبير عن معانيها . وذلك مع تقدير أن المحكي هنا هو معنى ما قاله نوح - عليه السلام - لا ألفاظه . وهو الأرجح . فنحن لا ندري بأية لغة كان نوح يعبر .
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه : إني لكم نذير مبين ) . .
ولم يقل قال : إني . . . لأن التعبير القرآني يحيي المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة لا حكاية ماضية . وكأنما هو يقول لهم الآن ونحن نشهد ونسمع . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنه يلخص وظيفة الرسالة كلها ويترجمها إلى حقيقة واحدة :
يخبر تعالى عن نوح ، عليه السلام ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عَبَدة الأصنام أنه قال لقومه : { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : ظاهر النّذَارَة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ؛ ولهذا قال : { أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } وقوله { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عَذَّبكم الله عذابا أليما مُوجعًا شاقًا في الدار الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَن لاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ أرْسَلْنا نُوحا إلى قَوْمِهِ إنّي لَكُمْ أيّها القوم نَذِيرٌ من الله أنذركم بأسه على كفركم به ، فآمنوا به وأطيعوا أمره . ويعني بقوله : مُبِينٌ : يبين لكم عما أرسل به إليكم من أمر الله ونهيه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إنّي فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض المدنيين بكسر «إن » على وجه الابتداء ، إذ كان في الإرسال معنى القول . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة بفتح «أَنّ » على إعمال الإرسال فيها ، كأن معنى الكلام عندهم : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه بأني لكم نذير مبين .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أن يُقال : إنهما قراءتان متفقتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء كان مصيبا للصواب في ذلك .
هذه آية قصص فيه تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام محمد صلى الله عليه وسلم ببدع من الرسل . وروي أن نوحاً عليه السلام أول رسول إلى الناس . وروي أن إدريس نبي من بني آدم إلا أنه لم يرسل ، فرسالة نوح إنما كانت إلى قومه كسائر الأنبياء ، وأما الرسالة العامة فلم تكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة «إني » بكسر الألف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني » بفتح الألف . فالكسر على إضمار القول ، والمعنى : قال لهم : { إني لكن نذير مبين } ، ثم يجيء قوله { أن لا تعبدوا } محمولاً ل { أرسلنا } ، أي أرسلنا نوحاً بأن لا تعبدوا إلا الله ، واعترض اثناء الكلام بقوله : { إني لكم نذير مبين } ، وفتح الألف على إعمال { أرسلنا } في «أن » أي بأني لكم نذير . قال أبو علي : وفي هذه القراءة خروج من الغيبة إلى المخاطبة .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وإنما هي حكاية مخاطبته لقوله ، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام : أن أنذرهم ونحوه لصح ذلك .
و «النذير » المحفظ من المكاره بأن يعرفها وينبه عليها و { مبين } من أبان يبين .
انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب ، وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بما لاقاه الرّسل عليهم السّلام قبله من أقوامهم .
فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية .
وأكدت الجملة بلام القسم و { قد } لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته .
وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة { إني } بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال ، أي قائلاً .
وقرأه ابن كثير ، وأبو عَمرو ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف بفتح الهمزة على تقدير حرف جرّ وهو الباء للملابسة ، أي أرسلناه متلبساً بذلك ، أي بمعنى المصدر المنسبك من ( أني نذير ) ، أي متلبساً بالنذارة البيّنة .
وتقدم الكلام على نوح عليه السلام وقومه عند قوله تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً } في آل عمران ( 33 ) . وعند قوله : { لقد أرْسلْنا نُوحاً إلى قوْمه } في سورة الأعراف ( 59 .