{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } من الأحمال الثقيلة ، بل وتحملكم أنتم { إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ } ولكن الله ذللها لكم .
فمنها ما تركبونه ، ومنها ما تحملون عليه ما تشاءون من الأثقال إلى البلدان البعيدة والأقطار الشاسعة ، { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } إذ سخر لكم ما تضطرون إليه وتحتاجونه ، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم سلطانه وسعة جوده وبره .
وقوله : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } يقول : وتحمل هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد آخر لم تكونوا بالغيه إلا بجهد من أنفسكم شديد ومشقة عظيمة . كما :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن عكرمة : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } قال : لو تكلفونه لم تبلغوه إلا بجهد شديد .
حدثنا ابن وكيع ، قال حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة : { إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } قال : البلد : مكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ؛ وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله { إلا بشق الأنفس } قال : مشقة عليكم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثن سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } يقول : بجهد الأنفس .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار بكسر الشين : { إلا بشق الأنفس } سوى أبي جعفر القارئ ، فإن :
المثنى حدثني ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثني أبو سعيد الرازي ، عن أبي جعفر قارئ المدينة ، أنه كان يقرأ : «لَمْ تَكُونُوا بالِغيهِ إلاّ بِشَقّ الأنْفُسِ » بفتح الشين ، وكان يقول : إنما الشقّ : شقّ النفس . وقال ابن أبي حماد : وكان معاذ الهرّاء يقول : هي لغة ، تقول العرب بشقّ وبشِقّ ، وبرَق وبرِق .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهي كسر الشين ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه . وقد يُنشد هذا البيت بكسر الشين وفتحها ، وذلك قول الشاعر :
وذِي إبِلِ يَسْعَى وَيحْسِبُها لَهُ *** أخِي نَصَبٍ مِنْ شَقّها ودُءُوبِ
و «من شِقّيها » أيضا بالكسر والفتح وكذلك قول العجاج :
*** أصبحَ مَسْحُولٌ يُوَازِي شَقّا ***
و «شِقّا » بالفتح والكسر . ويعني بقوله : «يوازي شَقّا » : يقاسي مشقة . وكان بعض أهل العربية يذهب بالفتح إلى المصدر من شققت عليه أشقّ شقّا ، وبالكسر إلى الاسم . وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا بالكسر أرادوا إلا بنقص من القوّة وذهاب شيء منها حتى لا يبلغه إلا بعد نقصها ، فيكون معناه عند ذلك : لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ قوى أنفسكم وذهاب شقها الاَخر . ويحكى عن العرب : خذ هذا الشّقّ : لشقة الشاة بالكسر ، فأما في شقت عليك شَقّا فلم يحك فيه إلا نصب .
وقوله : إنّ رَبّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره : إن ربكم أيها الناس ذو رأفة بكم ورحمة من رحمته بكم ، خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم ، وخلق السموات والأرض أدلة لكم على وحدانية ربكم ومعرفة إلهكم ، لتشكروه على نعمة عليكم ، فيزيدكم من فضله .
و «الأثقال » الأمتعة ، وقيل المراد هنا الأجسام كقوله { وأخرجت الأرض أثقالها }{[7252]} [ الزلزلة : 2 ] أي أجسام بني آدم .
قال القاضي أبو محمد : واللفظ يحتمل المعنيين ، قال النقاش : ومنه سمي الإنس والجن الثقلين ، وقوله { إلى بلد } أي بلد توجهتم بحسب اختلاف أغراض الناس ، وقال عكرمة وابن عباس والربيع بن أنس : المراد مكة{[7253]} ، وفي الآية على هذا حض على الحج . و «الشق » المشقة ، ومنه قول الشاعر [ النمر بن تولب ] : [ الطويل ]
وذي إبل يسعى ويحسبها له . . . أخي نصب من شقها ودؤوب{[7254]}
أي من مشقتها ، ويقال فيها شق وشق أي مشقة ، وقرأ أبو جعفر القاري وعمرو بن ميمون وابن أرقم ومجاهد والأعرج «بشَق الأنفس » بفتح الشين ، ورويت عن نافع وأبي عمرو ، وذهب الفراء إلى أن معنى { بشق الأنفس } أي بذهاب نصفها ، كأنه قد ذابت نصباً وتعباً ، كما تقول لرجل لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك وبقطعة من كبدك ونحو هذا من المجاز ، وذهبوا في فتح الشين إلى أنه مصدر : شَق يشق ، ثم أوجب رأفة الله ورحمته في هذه النعم التي أذهبت المشقات ورفعت الكلف .
جملة { وتحمل أثقالكم } معطوفة على { ولكم فيها جمال } فهي في موضع الحال أيضاً . والضمير عائد إلى أشهر الأنعام عندهم وهي الإبل ، كقولها في قصّة أم زرع « رَكب شَرياً وأخذَ خطيّاً فأراح علي نعماً ثرياً » ، فإن النعم التي تؤخذ بالرمح هي الإبل لأنها تؤخذ بالغارة .
وضمير { وتحمل } عائد إلى بعض الأنعام بالقرينة . واختيار الفعل المضارع بتكرر ذلك الفعل .
والأثقال : جمع ثَقَل بفتحتين وهو ما يثقل على الناس حمله بأنفسهم .
والمراد ب { بلد } جنس البلد الذي يرتحلون إليه كالشام واليمن بالنسبة إلى أهل الحجاز ، ومنهم أهل مكة في رحلة الصيف والشتاء والرحلة إلى الحجّ .
وقد أفاد { وتحمل أثقالكم } معنى تحملكم وتبلغكم ، بطريقة الكناية القريبة من التصريح . ولذلك عقب بقوله تعالى : { لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } .
وجملة { لم تكونوا بالغيه } صفة ل { بلد } ، وهي مفيدة معنى البعد ، لأن بلوغ المسافر إلى بلد بمشقّة هو من شأن البلد البعيد ، أي لا تبلغونه بدون الأنعام الحاملة أثقالكم .
والشِّقّ بكسر الشين في قراءة الجمهور : المشقة . والباء للملابسة . والمشقة : التعب الشّديد .
وما بعد أداة الاستثناء مستثنى من أحوال لضمير المخاطبين .
وقرأ أبو جعفر { إلا بشق الأنفس } بفتح الشين وهو لغة في الشِق المكسور الشين .
وقد نفت الجملة أن يكونوا بالغيه إلا بمشقّة ، فأفاد ظاهرها أنهم كانوا يبلغونه بدون الرواحل بمشقّة وليس مقصوداً ، إذ كان الحمل على الأنعام مقارناً للأسفار بالانتقال إلى البلاد البعيدة ، بل المراد : لم تكونوا بالغيه لولا الإبل أو بدون الإبل ، فحذف لقرينة السياق .
وجملة { إن بكم لرؤوف رحيم } تعليل لجملة { والأنعام خلقها } ، أي خلقها لهذه المنافع لأنه رؤوف رحيم بكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وتحمل أثقالكم}، يعني: الإبل والبقر، {إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس}، يعني: بجهد الأنفس.
{إن ربكم لرءوف}، يعني: لرفيق، {رحيم} بكم فيما جعل لكم من الأنعام من المنافع.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: وتحمل هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد آخر لم تكونوا بالغيه إلا بجهد من أنفسكم شديد ومشقة عظيمة...
وقد يجوز أن يكون الذين قرأوا بالكسر أرادوا: إلا بنقص من القوّة وذهاب شيء منها حتى لا يبلغه إلا بعد نقصها، فيكون معناه عند ذلك: لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ قوى أنفسكم وذهاب شقها الاَخر..
"إنّ رَبّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: إن ربكم أيها الناس ذو رأفة بكم ورحمة من رحمته بكم، خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم، وخلق السموات والأرض أدلة لكم على وحدانية ربكم ومعرفة إلهكم، لتشكروه على نعمة عليكم، فيزيدكم من فضله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "وتحمل أثقالكم"... وهو جمع ثقل، وهو المتاع الذي يثقل حمله، وجمعه أثقال. "لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس "والبلوغ: المصير إلى حد من الحدود...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الأسفار بعد ذلك، تلاه بقوله تعالى: {وتحمل} أي الأنعام {أثقالكم} أي أمتعتكم مع المشقة {إلى بلد} أي غير بلدكم أردتم السفر إليه {لم تكونوا} -أي كوناً أنتم مجبولون عليه- قادرين على حملها إليه، وتبلغكم -بحملها لكم- إلى بلد لم تكونوا {بالغيه} بغير الإبل {أي بشق} أي بجهد ومشقة وكلفة {الأنفس} ويجوز أن يكون المعنى: لم تبلغوه بها، فكيف لو لم تكن موجودة؛ والشق: أحد نصفي الشيء، كأنه كناية عن ذهاب نصف القوة لما يلحق من الجهد...
ولما كان هذا كله من الإحسان في التربية، ولا يسخره للضعيف إلا البليغ في الرحمة، وكان من الناس من له من أعماله سبب لرضى ربه، ومنهم من أعماله كلها فاسدة، قال: {إن ربكم} أي الموجد لكم والمحسن إليكم {لرؤوف} أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بما يرضيه {رحيم} أي بليغ الرحمة بسبب وبغير سبب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... {ربكم} للإشارة إلى أن ذلك التمكين من مقتضيات الربوبية والقيام على شئونكم وهو سبحانه وتعالى: الحي القيوم الذي يحيط بكل شيء علما.
{لرءوف رحيم}، والفرق بين الرأفة والرحمة فيما نحسب أن الرأفة فيما يكون في الإنسان في خاصة أمره من حيث الرفق والتسهيل والتيسير، والرحمة ما يكون بالإنسانية في عامة أمورها، وقد تكون الشدة في بعض الأحوال من مقتضيات الرحمة؛ لأن رحمة الكافة قد تقتضي شدة على الظالمين...
أن الله تعالى أكد وصفه بالرأفة والرحمة ب {إن}، وصيغ المبالغة، وبالجملة الإسمية، وباللام.