{ يستبشرون بنعمة من الله وفضل } أي : يهنىء بعضهم بعضا ، بأعظم مهنأ به ، وهو : نعمة ربهم ، وفضله ، وإحسانه ، { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } بل ينميه ويشكره ، ويزيده من فضله ، ما لا يصل إليه سعيهم .
وفي هذه الآيات إثبات نعيم البرزخ ، وأن الشهداء في أعلى مكان عند ربهم ، وفيه تلاقي أرواح أهل الخير ، وزيارة بعضهم بعضا ، وتبشير بعضهم بعضا .
وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم " عند ربهم " ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل ، ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين . وأنه لا يضيع أجر المؤمنين . .
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء - الذين قتلوا في سبيل الله ؟ - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ؛ وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس ، عن هذه الرحلة إلى جوار الله ، مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة !
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت - متى كان في سبيل الله - وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم ، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم . وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها ، بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة ، كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة . وحيث تستقر في مجال فسيح عريض ، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة ، ومن حياة إلى حياة !
ووفقا لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين ، سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة - في سبيل الله - وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات الحديث عن هذه الغزوة . فيرجع إليها هناك .
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }
يقول جل ثناؤه : { يَسْتَبْشِرُونَ } يفرحون ، { بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ } يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه ، { وفَضْلٍ } يقول : وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعدائه . { وأنّ الله لا يُضِيع أجْر المُؤْمِنِينَ } . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي إسحاق : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ وفَضْلٍ } . . . الاَية ، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيْم الثواب .
واختلف القراء في قراءة قوله : { وأنّ اللّه لا يُضِيعُ أجْر المُؤْمِنِينَ } ، فقرأ ذلك بعضهم بفتح الألف من «أنّ » بمعنى : يستبشرون بنعمة من الله وفضل ، وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . وبكسر الألف على الاستئناف¹ واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها في قراءة عبد الله : «وفَضْلٍ واللّهُ لا يُضِيعُ أجْر المُؤْمِنِينَ » قالوا : فذلك دليل على أن قوله : «وإِنّ الله » مستأنف غير متصل بالأول .
ومعنى قوله : { لا يُضِيعُ أجْر المُؤْمِنِينَ } : لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله .
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك : { وأنّ الله } بفتح الألف ، لإجماع الحجة من القراء على ذلك .
ثم أكد تعالى استبشارهم بقوله : { يستبشرون بنعمة } ثم بين تعالى بقوله : { وفضل } فوقع إدخاله إياهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال ، وقرأ الكسائي وجماعة من أهل العلم : » وإن الله «- بكسر الألف من » أن « ، وقرأ باقي السبعة وجمهور العلماء : » وأن الله «- بفتح الألف ، فمن قرأ بالفتح فذلك داخل فيما يستبشر به ، المعنى ، بنعمة وبأن الله ، ومن قرأ بالكسر فهو إخبار مستأنف ، وقرأ عبد الله < وفضل والله لا يضيع > .
ضمير { يستبشرون بنعمة من الله } يجوز أن يعود إلى الذين لم يلحقوا بهم فتكون الجملة حالاً من الذين لم يلحقوا بهم أي لا خوف عليهم ولا حزن فهم مستبشرون بنعمة من الله ، ويحتمل أن يكون تكريراً لقوله : { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا } والضمير ل { الذين قُتِلوا في سبيل الله } ، وفائدة التكرير تحقيق معنى البشارة كقوله : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] فكرّر أغويناهم ، ولأنّ هذا استبشار منه عائد لأنفسهم ، ومنه عائد لرفاقهم الذين استجابوا لله من بعد القرح ، والأولى عائدة لإخوانهم . والنعمة : هي ما يكون به صلاح ، والفضل : الزيادة في النعمة .
وقوله : { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } قرأه الجمهور بفتح همزة ( أنّ ) على أنه عطف على { نعمةٍ من الله وفضلٍ } ، والمقصود من ذلك تفخيم ما حصل لهم من الاستبشار وانشراح الأنفس بأنْ جمع الله لهم المسرّة الجثمانية الجزئية والمسرّة العقليّة الكلية ، فإنّ إدراك الحقائق الكلية لذّة روحانية عظيمة لشرف الحقائق الكلية وشرف العلم بها ، وحصول المسرّة للنفس من انكشافها لها وإدراكها ، أي استبشروا بأنّ عَلِموا حقيقة كليّة وسرّاً جليلاً من أسرار العِلم بصفات الله وكمالاته ، التي تعمّ آثارها ، أهل الكمال كلَّهم ، فتشمل الذين أدركوها وغيرهم ، ولولا هذا المعنى الجليل لم يكن داع إلى زيادة { وأن الله لا يضيع أجرالمؤمنين } إذ لم يحصل بزيادته زيادةُ نعمة وفضل للمستبشرين مِن جنس النعمة والفضل الأولين ، بل حصلت نعمة وفضل آخران .
وقرأه الكسائي بكسر همزة ( إنّ ) على أنه عطف على جملة { يستبشرون } في معنى التذييل فهو غير داخل فيما استبشر به الشهداء . ويجوز أن تكون الجملة على هذا الوجه ابتداء كلام ، فتكون الواو للاستئناف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يَسْتَبْشِرُونَ}: يفرحون، {بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ} يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه، {وفَضْلٍ} يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعدائه. ومعنى قوله: {لا يُضِيعُ أجْر المُؤْمِنِينَ}: لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل {بنعمة من الله} الجنة {و فضل} زيادات لهم وكرامات من الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} أي لا يضيع من حسناتهم وخيراتهم وإن قل وصغر...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(يستبشرون بنعمة من الله وفضل) وقيل: أراد بالنعمة: قدر الكفاية، وبالفضل: ما زاد على الكفاية، ومعناه: لا يضيِّق عليهم، بل يوسّع في العطاء، وقيل: ذكر الفضل تأكيدا للنعمة...
المسألة الأولى: أنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم، وإنما أعاد لفظ {يستبشرون} لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة. فإن قيل: أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار؟ قلنا: الجواب من وجهين: الأول: إن الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار. والثاني: لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال، وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة. المسألة الثانية: قوله: {بنعمة من الله وفضل} النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد. المسألة الثالثة: الآية تدل على أن استبشارهم بسعادة إخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم، لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الإخوان، وهذا، تنبيه من الله تعالى على أن فرح الإنسان بصلاح أحوال إخوانه ومتعلقيه، يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(يستبشرون بنعمة من الله) ضمير يستبشرون إما للشهداء وإما للذين لم يلحقوا بهم، فإن كان للشهداء فهو عبارة عما يتجدد لهم من نعمة وفضل أو المراد بقوله بنعمة ما ذكره في الآية السابقة من كونهم أحياء عنده يرزقون (ذو فضل) هو عين ما ذكره في الآية السابقة من كونهم (فرحين بما آتاهم الله من فضله) وإن كان للذين لم يلحقوا بهم فالمعنى أنهم يستبشرون بمثل ما فرح به الشهداء (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) وقرأ الكسائي "وإن "بكسر الهمزة على أنه تذييل أو معترض لتأييد معنى ما قبله. والمؤمنون هنا عما أريد به خصوص الذين وصفهم بقوله: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم "عند ربهم "ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل، ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين. وأنه لا يضيع أجر المؤمنين..
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء -الذين قتلوا في سبيل الله؟- وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؛ وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس، عن هذه الرحلة إلى جوار الله، مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة!
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت -متى كان في سبيل الله- وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم. وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها، بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة، كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة. وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة، ومن حياة إلى حياة!
ووفقا لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين، سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة -في سبيل الله- وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات الحديث عن هذه الغزوة. فيرجع إليها هناك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ضمير {يستبشرون بنعمة من الله} يجوز أن يعود إلى الذين لم يلحقوا بهم فتكون الجملة حالاً من الذين لم يلحقوا بهم أي لا خوف عليهم ولا حزن فهم مستبشرون بنعمة من الله، ويحتمل أن يكون تكريراً لقوله: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا} والضمير ل {الذين قُتِلوا في سبيل الله}، وفائدة التكرير تحقيق معنى البشارة كقوله: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} [القصص: 63] فكرّر أغويناهم، ولأنّ هذا استبشار منه عائد لأنفسهم، ومنه عائد لرفاقهم الذين استجابوا لله من بعد القرح، والأولى عائدة لإخوانهم. والنعمة: هي ما يكون به صلاح، والفضل: الزيادة في النعمة.
وقوله: {وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} قرأه الجمهور بفتح همزة (أنّ) على أنه عطف على {نعمةٍ من الله وفضلٍ}، والمقصود من ذلك تفخيم ما حصل لهم من الاستبشار وانشراح الأنفس بأنْ جمع الله لهم المسرّة الجثمانية الجزئية والمسرّة العقليّة الكلية، فإنّ إدراك الحقائق الكلية لذّة روحانية عظيمة لشرف الحقائق الكلية وشرف العلم بها، وحصول المسرّة للنفس من انكشافها لها وإدراكها، أي استبشروا بأنّ عَلِموا حقيقة كليّة وسرّاً جليلاً من أسرار العِلم بصفات الله وكمالاته، التي تعمّ آثارها، أهل الكمال كلَّهم، فتشمل الذين أدركوها وغيرهم، ولولا هذا المعنى الجليل لم يكن داع إلى زيادة {وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} إذ لم يحصل بزيادته زيادةُ نعمة وفضل للمستبشرين مِن جنس النعمة والفضل الأولين، بل حصلت نعمة وفضل آخران.
وقرأه الكسائي بكسر همزة (إنّ) على أنه عطف على جملة {يستبشرون} في معنى التذييل فهو غير داخل فيما استبشر به الشهداء. ويجوز أن تكون الجملة على هذا الوجه ابتداء كلام، فتكون الواو للاستئناف.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولقد بين سبحانه وتعالى استبشارهم بحسن الجزاء فقال سبحانه: {يستبشرون بنعمة من الله وفضل وان الله لا يضيع اجر المؤمنين}.
هذه الجملة بيان للاستبشار السابق، والتخريج في معنى كلمة الاستبشار الذي ذكرناه في النص السابق يجرى فيها.
والمعنى أن هؤلاء الشهداء يطلبون البشرى بنعمة من الله تعالى، وهي نعمة جزيلة كريمة فاضلة لأنها صادرة عن مانح النعم لهذا الوجود كله ومسديها لكل حي، والنعمة هنا هي نعمة الانتصار، والفضل هو ما يسبغه الله تعالى على أهل الحق من عزة، وطلب له شاعرين بأن الموت في سبيل الله هو عين البقاء، والحياة في باطل هي عين الفناء، فالاستبشار من هؤلاء الأطهار استبشار بالعزة لدينهم وللحق الذي افتدوه بأجسامهم وخفقت من بعد ذلك أرواحهم، فهم يستبشرون بنعمة النصر وفضل العزة للذين جاءوا من بعدهم، فنعمتهم هم وفضل الله عليهم في نصرة الإسلام بعدهم، وكون الله تعالى لا يضيع اجر المؤمنين، بأن يعطيهم النصر والعزة والكرامة جزاء جهادهم، وليس الاستبشار هنا بما ينالونه هم، بل بما ينال الإسلام والمؤمنين من بعدهم، والدليل على ذلك أن الاستبشار هنا بيان للاستبشار الذي سبقه، والاستبشار الذي سبقه كان لأن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأيضا فإن المؤمنين الذين لا يضيع جزاؤهم في الدنيا بالنصر، ولا في الآخرة بالنعيم المقيم، بينوا بأنهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: