{ 36-39 } { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ }
هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة ، وذكر الأعمال الموصلة إليها فقال : { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ } من ملك ورياسة ، وأموال وبنين ، وصحة وعافية بدنية . { فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } لذة منغصة منقطعة . { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ } من الثواب الجزيل ، والأجر الجليل ، والنعيم المقيم { خَيْرٌ } من لذات الدنيا ، خيرية لا نسبة بينهما { وَأَبْقَى } لأنه نعيم لا منغص فيه ولا كدر ، ولا انتقال .
ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال : { لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : جمعوا بين الإيمان الصحيح ، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة ، وبين التوكل الذي هو الآلة لكل عمل ، فكل عمل لا يصحبه التوكل فغير تام ، وهو الاعتماد بالقلب على الله في جلب ما يحبه العبد ، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى .
( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ، وما عند الله خير وأبقى ) . .
إن في هذه الأرض متاعاً جذاباً براقاً ، وهناك أرزاق وأولاد وشهوات ولذائذ وجاه وسلطان ؛ وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفا منه وهبة خالصة ، لا يعلقها بمعصية ولا طاعة في هذه الحياة الدنيا . وإن كان يبارك للطائع - ولو في القليل - ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير .
ولكن هذا كله ليس قيمة ثابتة باقية . إنما هو متاع . متاع محدود الأجل . لا يرفع ولا يخفض ، ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة ؛ ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب . إنما هو متاع . ( وما عند الله خير وأبقى ) . . خير في ذاته . وأبقى في مدته . فمتاع الحياة الدنيا زهيد حين يقاس إلى ما عند الله ، ومحدود حين يقاس إلى الفيض المنساب . ومتاع الحياة الدنيا معدود الأيام . أقصى أمده للفرد عمر الفرد ، وأقصى أمده للبشرية عمر هذه البشرية ؛ وهو بالقياس إلى أيام الله ومضة عين أو تكاد .
وبعد تقرير هذه الحقيقة يأخذ في بيان صفة المؤمنين الذين يذخر الله لهم ما هو خير وأبقى . .
ويبدأ بصفة الإيمان : ( وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا ) . . وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الأولى التي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشيء في هذا الوجود إلا عن طريقها . فمن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك لحقيقة هذا الوجود ، وأنه من صنع الله ؛ وبعد إدراك هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يتعامل مع الكون وهو يعرف طبيعته كما يعرف قوانينه التي تحكمه . ومن ثم ينسق حركته هو مع حركة هذا الوجود الكبير ، ولا ينحرف عن النواميس الكلية فيسعد بهذا التناسق ، ويمضي مع الوجود كله إلى بارىء الوجود في طاعة واستسلام وسلام . وهذه الصفة لازمة لكل إنسان ، ولكنها ألزم ما تكون للجماعة التي تقود البشرية إلى بارئ الوجود .
وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية ، والثقة بالطريق ، وعدم الحيرة أو التردد ، أو الخوف أو اليأس . وهذه الصفات لازمة لكل إنسان في رحلته على هذا الكوكب ؛ ولكنها ألزم ما تكون للقائد الذي يرتاد الطريق ، ويقود البشرية في هذا الطريق .
وقيمة الإيمان التجرد من الهوى والغرض والصالح الشخصي وتحقيق المغانم . إذ يصبح القلب متعلقاً بهدف أبعد من ذاته ؛ ويحس أن ليس له من الأمر شيء ، إنما هي دعوة الله ، وهو فيها أجير عند الله ! وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة كي لا يقنط إذا أعرض عنه القطيع الشارد أو أوذي في الدعوة ؛ ولا يغتر إذا ما استجابت له الجماهير ، أو دانت له الرقاب . فإنما هو أجير .
ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيماناً كاملاً أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيراً عجيباً . وكانت صورة الإيمان في نفس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في أخلاق الناس وسلوكهم ، فلما أن جاء الإسلام أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة تصلح بها هذه العصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " . عن هذا الإيمان :
" انحلت العقدة الكبرى - عقدة الشرك والكفر - فانحلت العقد كلها ؛ وجاهدهم الرسول جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي ، وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ، فكان النصر حليفه في كل معركة ؛ وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى ، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . . . . "
" حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم - بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم - وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم ، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة ، وفي اليوم رجال الغد ، لا تجزعهم مصيبة ، ولا تبطرهم نعمة ، ولا يشغلهم فقر ، ولا يطغيهم غنى ، ولا تلهيهم تجارة ، ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا ، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم ، قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسهم أو الوالدين والأقربين . . وطأ لهم أكناف الأرض ، وأصبحوا عصمة للبشرية ، ووقاية للعالم . وداعية إلى دين الله . . . "
ويقول عن تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول :
" كان الناس عرباً وعجماً يعيشون حياة جاهلية ، يسجدون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم ، لا يثيب الطائع بجائزة ، ولا يعذب العاصي بعقوبة ، ولا يأمر ولا ينهى ؛ فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم ، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم ، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم . كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية ؛ فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر ، وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها ، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة . فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية ، وكان إيمانهم بالله ، وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ ، يقال له : من بنى هذا القصر العتيق ? فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له ؛ فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه ، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم ، فكانت معرفتهم مبهمة غامضة ، قاصرة مجملة ، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة . . .
. . . انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها . آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى . آمنوا برب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، العزيز ، الحكيم ، الغفور ، الودود ، الرؤوف ، الرحيم ، له الخلق والأمر ، بيده ملكوت كل شيء ، يجير ولا يجار عليه . . . إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه . يثيب بالجنة ويعذب بالنار ، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يعلم الخبء في السماوات والأرض ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه . فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً . فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن . تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره ، وجرى منه مجرى الروح والدم ، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها ، وغمر العقل والقلب بفيضانه ، وجعل منه رجلا غير الرجل ، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ، ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد ، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق " .
" وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ، ومحاسبتها والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية ، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ، ولا تتناوله يد القانون ، تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ، ووخزاً لاذعاً للضمير ، وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً ، تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة " . .
" . . . وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه النزّع أمام المطامع والشهوات الجارفة ، وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد ، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً . وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم ، وأداء الأمانات إلى أهلها ، والإخلاص لله ، ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ، ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان " .
" وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع ، لا يخضعون لسلطان ، ولا يقرون بنظام ، ولا ينخرطون في سلك ، يسيرون على الأهواء ، ويركبون العمياء ، ويخبطون خبط عشواء . فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها ، واعترفوا لله بالملك والسلطان ، والأمر والنهي ، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة ، وأعطوا من أنفسهم المقادة ، واستسلموا للحكم الإلهي استسلاما كاملاً ووضعوا أوزارهم ، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم ، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به ، لا يحاربون ولا يصالحون
إلا بإذن الله ، ولا يرضون ولا يسخطون ، ولا يعطون ولا يمنعون ، ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره " .
وهذا هو الإيمان الذي تشير إليه الآية وهي تصف الجماعة التي اختيرت لقيادة البشرية بهذه العقيدة . ومن مقضيات هذا الإيمان التوكل على الله . ولكن القرآن يفرد هذه الصفة بالذكر ويميزها :
وهذا التقديم والتأخير في تركيب الجملة يفيد قصر التوكل على ربهم دون سواه . والإيمان بالله الواحد يقتضي التوكل عليه دون سواه . فهذا هو التوحيد في أول صورة من صوره . إن المؤمن يؤمن بالله وصفاته ، ويستيقن أنه لا أحد في هذا الوجود يفعل شيئاً إلا بمشيئته ، وأنه لا شيء يقع في هذا الوجود إلا بإذنه . ومن ثم يقصر توكله عليه ، ولا يتوجه في فعل ولا ترك لمن عداه .
وهذا الشعور ضروري لكل أحد ، كي يقف رافع الرأس لا يحني رأسه إلا لله . مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدا إلا الله . ثابت الجأش في الضراء ؛ قرير النفس في السراء ، لا تستطيره نعماء ولا بأساء . . ولكن هذا الشعور أشد ضرورة للقائد ، الذي يحتمل تبعة ارتياد الطريق .
وقوله : فَمَا أُوتِيُتمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره : فما أعطيتم أيها الناس من شيء من رياش الدنيا من المال والبنين ، فمتاع الحياة الدنيا ، يقول تعالى ذكره : فهو متاع لكم تتمتعون به في الحياة الدنيا ، وليس من دار الاَخرة ، ولا مما ينفعكم في معادكم وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وأبْقَى يقول تعالى ذكره : والذي عند الله لأهل طاعته والإيمان به في الاَخرة ، خير مما أوتيتموه في الدنيا من متاعها وأبقى ، لأن ما أوتيتم في الدنيا فإنه نافد ، وما عند الله من النعيم في جنانه لأهل طاعته باقٍ غير نافد لِلّذِينَ آمنوا : يقول : وما عند الله للذين آمنوا به ، وعليه يتوكلون في أمورهم ، وإليه يقومون في أسبابهم ، وبه يثقون ، خير وأبقى مما أوتيتموه من متاع الحياة الدنيا .