{ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } والفرق بين الكبائر والفواحش -مع أن جميعهما كبائر- أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ، كالزنا ونحوه ، والكبائر ما ليس كذلك ، هذا عند الاقتران ، وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر فإن الآخر يدخل فيه .
{ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } أي : قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، فصار الحلم لهم سجية ، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله ، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه ، بل غفروه ، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح .
فترتب على هذا العفو والصفح ، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
وطهارة القلب ، ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش ، أثر من آثار الإيمان الصحيح . وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة . وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها . وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره .
ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة ، حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة [ ص 77 ] وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة . ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات !
والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري ، فيجعل الحد الذي يصلح به للقيادة ، والذي ينال معه ما عند الله ، هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش . لا صغائر الإثم والذنب . وتسعه رحمته بما يقع منه من هذه الصغائر ، لأنه أعلم بطاقته . وهذا فضل من الله وسماحة ورحمة بهذا الإنسان ؛ توجب الحياء من الله ، فالسماحة تخجل والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء .
( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) . .
وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه ، فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد . وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون .
وتتجلى سماحة الإسلام مرة أخرى مع النفس البشرية ؛ فهو لا يكلف الإنسان فوق طاقته . والله يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته . وهو ليس شراً كله . فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل غضب مطلوب وفيه الخير . ومن ثم لا يحرم الغضب في ذاته ولا يجعله خطيئة . بل يعترف بوجوده في الفطرة والطبيعة ، فيعفي الإنسان من الحيرة والتمزق بين فطرته وأمر دينه . ولكنه في الوقت ذاته يقوده إلى أن يغلب غضبه ، وأن يغفر ويعفو ، ويحسب له هذا صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة . هذا مع أنه عرف عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه لم يغضب لنفسه قط ، إنما كان يغضب لله ، فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء . ولكن هذه درجة تلك النفس المحمدية العظيمة ؛ لا يكلف الله نفوس المؤمنين إياها . وإن كان يحببهم فيها . إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب ، والعفو عند القدرة ، والاستعلاء على شعور الانتقام ، ما دام الأمر في حدود الدائرة الشخصية المتعلقة بالأفراد .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما عند الله للذين آمنوا وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ ، وكبائر فواحش الإثم ، قد بيّنا اختلاف أهل التأويل فيها وبيّنا الصواب من القول عندنا فيها في سورة النساء ، فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا . وَالفَوَاحِشَ قيل : إنها الزنى : ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ والفَوَاحِشَ قال : الفواحش : الزنى واختلفت القرّاء في قراءة قوله : كَبائِرَ الإثْمِ فقرأته عامة قرّاء المدينة على الجماع كذلك في النجم ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة «كَبِيرَ الإثْمِ » على التوحيد فيهما جميعا وكأن من قرأ ذلك كذلك ، عنى بكبير الإثم : الشرك ، كما كان الفرّاء يقول : كأني أستحب لمن قرأ كبائر الإثم أن يخفض الفواحش ، لتكون الكبائر مضافة إلى مجموع إذ كانت جمعا ، وقال : ما سمعت أحدا من القرّاء خفض الفواحش .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء على تقارب معنييهما ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وَإذَا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يقول تعالى ذكره : وإذا ما غضبوا على من اجترم إليهم جرما ، هم يغفرون لمن أجرم إليهم ذنبه ، ويصفحون عنه عقوبة ذنبه .
وقوله : { والذين يجتنبون } عطف على قوله : { الذين آمنوا }{[10157]} . وقرأ جمهور الناس : «كبائر » على الجمع . قال الحسن : هي كل ما توعد فيه بالنار . وقال الضحاك : أو كان فيه حد من الحدود . وقال ابن مسعود : الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية . وقال علي وابن عباس : هي كل ما ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم{[10158]} : «كبير » على الإفراد الذي هو اسم الجنس . وقال ابن عباس : كبير الإثم : هو الشرك . { والفواحش } قال السدي : الزنا . وقال مقاتل : موجبات الحدود ، ويحتمل أن يكون كبير اسم جنس بمعنى كبائر ، فتدخل موبقات السبع على ما قد تفسر من أمرها في غير هذه .
وقوله تعالى : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } حض على كسر الغضب والتدرب في إطفائه ، إذ هو جمهرة من جهنم وباب من أبوابها ، «وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب{[10159]} . قال : زدني : قال : لا تغضب ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هماً عظيماً في دنياه وآخرته » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.