ولما كان اللعين يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة ؛ وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته ؛ فقد استعان على زعزعته - إلى جانب مداعبة شهواتهما - بتأمينهما من هذه الناحية ؛ فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح ، وفي نصحه صادق :
( وقاسمهما : إني لكما لمن الناصحين ) . . !
ونسي آدم وزوجه - تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر - أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير ! وأن الله أمرهما أمراً عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها ! وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله ، فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَقاسَمَهُما : وحلف لهما ، كما قال في موضع آخر : تَقاسَمُوا باللّهِ لَنُبَيّتَنّهُ بمعنى : تحالفوا بالله وكما قال خالد بن زهير عمّ أبي ذؤيب :
وقاسَمَها باللّهِ جَهْدا لاَءَنْتُمُ ***ألَذّ منَ السّلْوَى إذَا ما نَشُورُها
بمعنى : وحالفها بالله وكما قال أعشى بني ثعلبة :
رَضِيعَيْ لِبانِ ثَدْيِ أُمّ تَقَاسَمَا ***بأسْحَمَ داجٍ عَوْضُ لا نَتَفَرّقُ
بمعنى تحالفا . وقوله : إنّي لَكُما لِمنَ النّاصحِينَ : أي لممن ينصح لكما في مشورته لكما ، وأمره إياكما بأكل ثمر الشجرة التي نهيتما عن أكل ثمرها ، وفي خبري إياكما بما أخبركما به من أنكما إن أكلتماه كنتما ملَكين ، أو كنتما من الخالدين . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقاسَمَهُما إنّي لَكُما لَمِنَ النّاصحِينَ فحلف لهما بالله حتى خدعهما ، وقد يُخدع المؤمن بالله ، فقال : إني خُلقت قبلكما وأنا أعلم منكما ، فاتبعاني أرشدكما . وكان بعض أهل العلم يقول : من خَادَعنا بالله خَدَعنا .
{ وقاسمهما } أي حلف لهما بالله ، وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعطي أنها من واحد ، ومثله قول الهذلي :
وقاسمها بالله جهداً لأنتم*** ألذ من السلوى إذا ما تشورها
وروي في القصص أن آدم قال في جملة اعتذاره : ما ظننت يا رب أن أحداً يحلف حانثاً ، فقال بعض العلماء : خدع الشيطان آدم بالله عز وجل فانخدع ، ونحن من خدعنا بالله عز وجل انخدعنا له ، وروي نحوه عن قتادة ، واللام في قوله { لكما } متعلقة بالناصحين ، فقال بعض الناس مكي وغيره : ذلك على أن تكون الألف واللام لتعريف الجنس لا بمعنى الذي ، لأنها إذا كانت بمعنى الذي كان قوله { لكما } داخلاً في الصلة فلا يجوز تقديمه ، وأظن أن أبا علي الفارسي خرج جواز تقديمه وهي بمعنى الذي ، والظاهر أنه إن جعلت بمعنى الذي كانت اللام في قوله { لكما } متعلقة بمحذوف تقديره إني ناصح لكما من الناصحين ، وقال أبو العالية في بعض القراءة «وقاسمهما بالله » .
{ وقاسمهما } أي حلف لهما بما يوهم صدقه ، والمقاسمة مفاعلة من أقسم إذا حلف ، حذفت منه الهمزة عند صوغ المفاعلة ، كما حذفت في المكارمة ، والمفاعلةُ هنا للمبالغة في الفعل ، وليست لحصول الفعل من الجانبين ، ونظيرها : عافاه الله ، وجعله في « الكشاف » : كأنّهما قالا له تُقسم بالله إنّك لمن النّاصحين فَأقْسم فجُعل طلبُهما القسمَ بمنزلة القسم ، أي فتكون المفاعلة مجازاً ، قال أو أقسم لهما بالنّصيحة وأقسما له بقبولها ، فتكون المفاعلة على بابها ، وتأكيد إخباره عن نفسه بالنّصح لهما بثلاث مؤكدَات دليل على مبلغ شكّ آدم وزوجه في نصحه لهما ، وما رأى عليهما من مخائل التّردّد في صدقه ، وإنّما شكّا في نصحه لأنّهما وَجدا ما يأمرهما مخالفاً لما أمرهما الله الذي يعلمان إرادتَه بهما الخير علماً حاصلاً بالفطرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقاسمهما}، يعني حلف بالله لهما، {إني لكما لمن الناصحين} إنها شجرة الخلد، من أكل منها لم يمت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله:"وَقاسَمَهُما": وحلف لهما...
وقوله: "إنّي لَكُما لِمنَ النّاصحِينَ": أي لممن ينصح لكما في مشورته لكما، وأمره إياكما بأكل ثمر الشجرة التي نهيتما عن أكل ثمرها، وفي خبري إياكما بما أخبركما به من أنكما إن أكلتماه كنتما ملَكين، أو كنتما من الخالدين... عن قتادة، قوله: "وَقاسَمَهُما إنّي لَكُما لَمِنَ النّاصحِينَ": فحلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يُخدع المؤمن بالله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
المقاسمة لا تكون إلا بين اثنين، والقسم كان من إبليس لآدم، لأن آدم مقسم له...
والقسم تأكيد الخبر بطريقة والله، وبالله، وتالله. أخبر الله تعالى في هذه الآية أن إبليس حلف، لآدم وحواء أنه لهما ناصح في دعائهما إلى التناول من الشجرة ولذلك تأكدت الشبهة عندهما، وظنا أن أحدا لا يقدم على اليمين بالله إلا صادقا، فكان ذلك داعيا لهما إلى تناول الشجرة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حُسْنُ ظنِّ آدم -عليه السلام- حَملَه على سكون قلبه إلى يمين العدو لأنه لم يخطر بباله أن يكذب في يمينه بالله، ثم لمَّا بان له أنه دلاَّهما بغرورٍ تاب إلى الله بصدق الندم، واعترف بأنه أساء وأجرم، فَعَلِمَ -سبحانه- صِدْقَه فيما ندم، فتداركه بجميل العفو والكرم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وقاسمهما} أي حلف لهما بالله، وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعطي أنها من واحد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... ذكر المفاعلة ليدل على أنه حصلت بينهما في ذلك مراوغات ومحاولات بذل فيها الجهد، وأكد لمعرفته أنهما طبعا على النفرة من المعصية -ما أقسم عليه أنواعاً من التأكيد في قوله: {إني لكما} فأفاد تقديم الجار المفهم للاختصاص أنه يقول: إني خصصتكما بجميع نصيحتي {لمن الناصحين*} وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف، وأن الأغلب أن كل حلاف كذاب، فإنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه، ولا يظن ذلك إلا وهو معتاد للكذب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ادعى اللعين أنه ناصح لهما فيما رغبهما فيه من الأكل من الشجرة. ولما كان محل الظنة في نصحه عندهما، لأنه تعالى أخبرهما بأنه عدو لهما، أكد دعواه بأشد المؤكدات وأغلظها، وهي القسم...
وكان الظاهر أن يقال وأقسم لهما فإن المقاسمة تدل على المشاركة كقاسمه المال أي أخذ كل منهما قسما وللمفسرين في الصيغة قولان أحدهما أن صيغة فاعل وردت للمفرد كثيرا وهذا منها فمعناه: وحلف لهما. والقول الثاني إنها على أصلها، ووجهوه بوجوه لا دليل عليها كقولهم: إنهما أقسما له أنهما يقبلان نصيحته إذ أقسم أنه ناصح، وقولهم إنهما طلبا منه القسم فجعل طلبهما القسم كالقسم، وإنما يعلم مثل هذا بالنقل عن المعصوم، ولو قيل إنه هو الذي عرض عليهما أن يقسم لهما وطلب منهما أن يقسما له وبنى قسمه على ذلك لكان أقرب إلى المألوف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونسي آدم وزوجه -تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر- أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير! وأن الله أمرهما أمراً عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها! وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله، فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمفاعلةُ هنا للمبالغة في الفعل، وليست لحصول الفعل من الجانبين.
والنصح هنا: إغراء بمخالفة أمر الله، وكان يجب ألا تكون هناك غفلة من آدم، وكان لابد أن يقارن بين الأمرين، بين غواية الشيطان له بالأكل، وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه: لا تقربا. لكنه لم يفعل...