الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ} (21)

قوله تعالى : { وقَاسَمَهُمَا } : المفاعلةُ هنا تحتمل أن تكون على بابها ، فقال الزمخشري : " كأنه قال لهما : أُقسم لكما إني لمن الناصحين ، وقالا له : أتقسم بالله أنت إنك لمن الناصحين لنا ، فَجعَل ذلك مقاسمةً بينهم ، أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها ، أو أَخْرج قسمَ إبليس على وزن المفاعلة ؛ لأنه اجتهد فيها اجتهادَ المُقاسِم " . وقال ابن عطية : " وقاسمهما : أي حلف لهما ، وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره ، وإن كان بادئَ الرأي يعطي أنها من واحد " ، ويحتمل أن يكون فاعَل بمعنى أفعل كباعَدْته وأبعدته ، وذلك أن الحَلْفَ إنما كان من إبليس دونهما وعليه قول خالد بن زهير :

وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ *** ألذَّ مِنَ السَّلوى إذا ما نشورها

قوله : { لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين } يجوز في " لكما " أن يتعلق بما بعده على أن أل معرفةٌ لا موصولة ، وهذا مذهبُ أبي عثمان ، أو على أنها الموصولة ولكن تُسُومح في الظرف وعديله ما لا يتسامح في غيرهما اتساعاً فيهما لدوَرانهما في الكلام ، وهو رأي بعض البصريين وأنشد :

رَبَّيْتُهُ حتى إذا تَمَعْدَدا *** كان جزائي بالعصا أن أُجْلدا

ف " بالعصا " متعلق بأُجْلَد وهو صلة أَنْ ، أو أن ذلك جائز مطلقاً ولو في المفعول به الصريح ، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وشفاءُ غَيِّك خابِراً أن تسألي

أي : أن تسألي خابراً ، أو أنه متعلقٌ بمحذوف على البيان أي : أعني لكما كقولهم : سقياً لك ورَعياً ، أو تعلَّق بمحذوف مدلول عليه بصلة أل أي : إني ناصحٌ لكما . ومثلُ هذه الآية الكريمة : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ }

[ الشعراء : 168 ] { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [ يوسف : 20 ] : وجعل ابن مالك ذلك مطَّرداً في مسألة أل الموصولة إذا كانت مجرورة ب مِنْ .

ونَصَح يتعدى لواحد تارةً بنفسه وتارة بحرف الجر ، ومثله شكر ، وقد تقدم ، وكال ووزن . وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر أو التعدي بنفسه أو كلٌّ منهما أصل ؟ الراجح الثالث . وزعم بعضُهم أن المفعول في هذه الأفعال محذوفٌ وأن المجرور باللام هو الثاني ، فإذا قلت : نصحتُ لزيدٍ فالتقدير : نصحت لزيد الرأيَ . وكذلك شَكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه ووَزَنْتُ له متاعه فهذا مذهب رابع . وقال الفراء : " العربُ لا تكاد تقول : نصحتك ، إنما يقولون نصحتُ لك وأنصح لك " ، وقد يجوز نصحتك . قال النابغة :

نصحتُ بني عوفٍ فلم يتقبَّلوا *** رسولي ولم تنجحْ لديهم وسائلي

وهذا يقوِّي أن اللام أصل .

والنُّصْحُ : بَذْلُ الجهد في طلب الخير خاصة ، وضده الغش . وأمَّا " نصحت لزيد ثوبه " فمتعدٍ لاثنين لأحدهما بنفسه ، وللثاني بحرف الجر باتفاق ، وكأن النصح الذي هو بذل الجهد في الخير مأخوذ مِنْ أحد معنيين : إمَّا مِنْ نَصَح أي أخلص ، ومنه : ناصح العسل أي خالصه ، فمعنى نصحه أخلصَ له الوُدَّ ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْد والثوب إذا أحكمتَ خياطتهما ، ومنه الناصح للخيَّاط والنِّصاح للخيط ، فمعنى نَصَحه أي : أحكم رأيه منه . ويقال : نَصَحه نُصوحاً ونَصاحة قال تعالى : { تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } [ التحريم : 8 ] بضم النون في قراءة أبي بكر ، وقال الشاعر في " نَصاحة " :

أَحْبَبْتُ حُبَّاً خالَطَتْه نَصاحةٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وذلك كذُهوب وذَهاب .