اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ} (21)

قوله : " وقَاسَمَهُما " المفاعلةُ هنا يحتمل أن تكُونَ على بابها فقال الزَّمَخْشَرِيُّ{[15918]} : " كأنَّهُ قال لهما : أقْسِمُ لكُمَا أنِّي لمن النَّاصِحِينَ ، وقالا له : أتقسُم باللَّهِ أنت إنَّكَ لمن الناصحين لنا فجعل ذلك مُقَاسَمَةً بَيْنَهُم ، أو أقسم لهما بالنَّصِيحَةِ ، وأقسما له بقبُولِهَا ، أو أخرج قسم إبليس على وزن المُفَاعَلَةِ ؛ لأنَّهُ اجْتَهَد فيها اجتهاد المُقَاسِمِ " .

وقال ابْنُ عطيَّة{[15919]} : " وقَاسَمَهُمَا " أي : حَلَفَ لهما ، وهي مفاعلة إذْ قَبُولُ المحلوف له ، وإقباله على معنى اليمينِ كالقسم وتقريره : وإنْ كان بَادِىء الرَّأي يعطي أنَّها من واحد ويحتمل أنَّ " فاعل " بمعنى " أفعل " كبَاعَدْته ، وأبْعَدْتُهُ ، وذلك أنَّ قوله الحَلْف إنَّما كان من إبليس دونهما ، وعليه قول خالدِ بْن زُهير : [ الطويل ]

وَقَاسَمَها باللَّهِ جَهْداً لأنْتُمُ *** ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُها{[15920]}

قال قتادةُ : حلف لهما بالله حتى خَدَعَهُمَا ، وقد يُخْدَعُ المُؤمِنُ بالله .

{ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } أي : قال إبليس : إنِّي حلفت قبلكما ، وأنا أعلم أحْوالاً كثيرةً من المصالحِ والمفاسد ، لا تَعْرِفَانها ، فامْتَثِلا قولي أرشِدكُمَا ، وإبليسُ أوَّلُ من حَلَفَ باللَّهِ كاذباً ، فلمَّا حلف ظن آدم أنَّ أحداً لا يحلف بالله إلاَّ صَادِقاً فاغتر به .

قوله : { لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } يجوز في " لَكُمَا " أن تتعلق بما بعده على أن " أل " معرفة لا موصولة ، وهذا مذهبُ أبي عُثْمان ، أو على أنَّها موصولةٌ ، ولكن تُسُومح في الظَّرْفِ وعدليه ما لا يتسامح في غيرهما اتِّسَاعاً فيهما لدورانهما في الكلام ، وهو رَأيُ بعض البَصْريِّين ، وأنْشَدَ : [ الرجز ]

رَبَّيْتُهُ حَتَّى إذا تَمَعْدَدَا *** كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أُجْلَدَا{[15921]}

ف " بِالعَصَا " متعلِّقٌ بأْجلَدا وهو صلة أنْ ، أو أن ذلك جائزٌ مطلقاً ، ولو في المفعول به الصَّريح ، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا : [ الكامل ]

. . . *** وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي{[15922]}

أي : أن تسألي خابراً ، أو أنُّهُ متعلِّقٌ بمحذوف على البيانِ أي : أعني لَكُمَا كقولهم : سُقْياً لك ، ورَعْياً ، أو تعلَّقَ بمحذوف مدلول عليه بصِلَةِ أل أي : إنِّي نَاصِحٌ لَكُمَا ، ومثل هذه الآية الكريمة : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } [ الشعراء : 168 ] ، { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 68 ] .

وجعل ابن مالك{[15923]} ذلك مطَّرداً في مَسْألةِ أل الموصولة إذا كانت مجرورة ب " من " .

ونَصَحَ يتعدَّى لواحدٍ تارَةً بنفسه ، وتارةً بحرف الجرِّ ، ومثله شَكَرَ ، وقد تقدَّمَ{[15924]} ، وكال ، ووزن . وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر والتَّعدِّي بنفسه ، أو كل منهما أصْلٌ ؟ الرَّاجِحُ الثَّالِثُ .

وزعم بعضُهم أنَّ المفعول في هذه الأفْعَالِ محذوفٌ ، وأنَّ المجرور باللاَّم هي الثَّاني ، فإذا قُلْتَ : نَصَحْتُ لِزَيْدٍ فالتقديرُ : نصحتُ لزيدٍ الرَّأيَ ، وكذلك شكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه وَوَزَنْتُ له متاعه فهذا مَذْهَبٌ رابع .

وقال الفرَّاءُ : " العربُ لا تَكَادُ تقول : نَصَحْتُكَ ، إنَّمَا يَقُولُونَ نَصَحْتُ لك وأنْصَحُ لك " ، وقد يجوز نصحتك . قال النابغة : [ الطويل ]

نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا *** رَسُولِي وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ رَسَائِلِي{[15925]}

وهذا يقوِّي أنَّ اللاَّم أصلٌ .

والنُّصْحُ : بَذْلُ الجُهْدِ في طلب الخَيْرِ خاصَّةً ، وضدُّهُ الغشُّ .

وأمَّا " نَصَحْتُ لِزَيْدٍ ثوبه " فمتعدٍّ لاثنين ، لأحدهما بنفسه وللثاني بحرف الجرِّ بأتِّفاقٍ ، وكأنَّ النُّصْحَ الذي هو بَذْلُ الجهد في الخير مأخُوذٌ من أحد معنيين : إمَّا من نَصَحَ أي أخْلَصَ ومنه : نَاصِحُ العسل أي خَالِصُهُ ، فمعنى نَصَحَهُ : أخلص له الوُدَّ ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْدَ والثَّوْبَ إذا أحكمت خياطتهما ، ومنه النَّاصحُ للخيَّاطِ والنَّصَاحُ للخيط ، فمعنى نَصَحه أي : أحكم رأيه منه .

ويقال : نَصَحه نُصُوحاً ونَصَاحَةً قال تعالى : { توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نّصُوحاً } [ التحريم : 8 ] بضمِّ النُّونِ في قراءة أبِي بَكْرٍ ، وقال الشَّاعر في " نَصَاحَةٍ " : [ الطويل ]

أحْبِبْتُ حُبّاً خَالَطَتْهُ نَصَاحَةٌ *** . . . {[15926]}

وذلك كذُهُوبٍ ، وذهابٍ .


[15918]:ينظر: الكشاف للزمخشري 2/95.
[15919]:ينظر: المحرر الوجيز 2/385.
[15920]:التهذيب 13/69 (سلا)، اللسان (سلا)، البحر 4/280، الدر المصون 3/248، وديوان الهذليين 1/958.
[15921]:تقدم.
[15922]:تقدم.
[15923]:ينظر: شرح الكافية له 2/1019.
[15924]:ينظر: تفسير سورة البقرة آية 52.
[15925]:ينظر ديوانه 93، ابن الشجري 1/362، اللسان (نصح)، الدر المصون 3/249.
[15926]:ينظر المفردات ص 753، الدر المصون 3/249.