ثم أخبر تعالى عن منته العظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه السلام ، فقال { ويعلمه الكتاب } يحتمل أن يكون المراد جنس الكتاب ، فيكون ذكر التوراة والإنجيل تخصيصا لهما ، لشرفهما وفضلهما واحتوائهما على الأحكام والشرائع التي يحكم بها أنبياء بني إسرائيل والتعليم ، لذلك يدخل فيه تعليم ألفاظه ومعانيه ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله { ويعلمه الكتاب } أي : الكتابة ، لأن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم }
والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع ، ووضع الأشياء مواضعها ، فيكون ذلك امتنانا على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة ، وهذا هو الكمال للإنسان في نفسه .
ثم يتابع الملك البشارة لمريم عن هذا الخلق الذي اختارها الله لإنجابه على غير مثال ؛ وكيف ستمضي سيرته في بني إسرائيل . . وهنا تمتزج البشارة لمريم بمقبل تاريخ المسيح ، ويلتقيان في سياق واحد ، كأنما يقعان اللحظة ، على طريقة القرآن :
( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) . .
والكتاب قد يكون المراد به الكتابة ؛ وقد يكون هو التوراة والإنجيل ، ويكون عطفهما على الكتاب هو عطف بيان . والحكمة حالة في النفس يتأتي معها وضع الأمور في مواضعها ، وإدراك الصواب واتباعه . وهي خير كثير . والتوراة كانت كتاب عيسى كالإنجيل . فهي أساس الدين الذي جاء به . والإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة ، ولروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل . وهذا ما يخطىء الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة ، وهي قاعدة دين المسيح - عليه السلام - وفيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع ؛ ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل . أما الإنجيل فهو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين ، وتهذيب لضمير الإنسان بوصله مباشرة بالله من وراء النصوص . هذا الإحياء وهذا التهذيب اللذان جاء المسيح وجاهد لهما حتى مكروا به كما سيجيء .
{ وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة وبعض قراء الكوفيين : { وَيُعَلّمُهُ } بالياء ردّا على قوله : { كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيُعَلّمُهُ الكِتابَ } فألحقوا الخبر في قوله : { وَيُعَلّمُهُ } ، بنظير الخبر في قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشاءُ } ، وقوله : { فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين وبعض البصريين : «وَنُعَلّمُهُ » بالنون عطفا به على قوله : { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } كأنه قال : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، ونعلمه الكتاب . وقالوا : ما بعد «نوحيه » في صلته ، إلى قوله : «كن فيكون » ، ثم عطف بقوله : «ونعلمه عليه » .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مختلفتان غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الصواب في ذلك لاتفاق معنى القراءتين في أنه خبر عن الله بأنه يعلم عيسى الكتاب ، وما ذكر أنه يعلمه ، وهذا ابتداء خبر من الله عزّ وجلّ لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به من الكرامة ، ورفعة المنزلة والفضيلة ، فقال : كذلك الله يخلق منك ولدا ، من غير فحل ولا بعل ، فيعلمه الكتاب ، وهو الخط الذي يخطه بيده ، والحكمة : وهي السنة التي نوحيها إليه في غير كتاب ، والتوراة : وهي التوراة التي أنزلت على موسى ، كانت فيهم من عهد موسى ، والإنجيل : إنجيل عيسى ، ولم يكن قبله ، ولكن الله أخبر مريم قبل خلق عيسى أنه موحيه إليه ، وإنما أخبرها بذلك ، فسماه لها ، لأنها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعث نبيا يوحى إليه كتابا اسمه الإنجيل ، فأخبرها الله عزّ وجلّ أن ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي سمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلاً ، هو الولد الذي وهبه لها ، وبشرها به .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ » قال : بيده .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ والحِكْمَةَ » قال : الحكمة : السنة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر¹ عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ » قال : الحكمة : السنة ، { وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيل } قال : كان عيسى يقرأ التوراة والإنجيل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ » قال : الحكمة : السنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : أخبرها يعني : أخبر الله مريم ما يريد به فقال : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ » التي كانت فيهم من عهد موسى { وَالإِنْجِيلَ } كتابا آخر أحدثه إليه ، لم يكن عندهم علمه إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء قبله .
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ }
قرأ نافع وعاصم «ويعلمه » بالياء ، وذلك عطف على { يبشرك بكلمة } [ آل عمران : 45 ] كذا قال أبو علي : ويحتمل أن يكون في موضع الحال عطفاً على { ويكلم } [ آل عمران : 46 ] ، وقرأ الباقون ، و«نعلمه » بالنون ، وهي مثل قراءة الياء في المعنى لكن جاءت بنون العظمة ، قال الطبري : قراءة الياء عطف على قوله : { يخلق ما يشاء } [ آل عمران : 47 ] ، وقراءة النون عطف على قوله : { نوحيه إليك } [ آل عمران : 43 ] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قاله خطأ في الوجهين مفسد للمعنى{[3180]} و{ الكتاب } هو الخط باليد فهو مصدر كتب يكتب . هذا قول ابن جريج وجماعة المفسرين ، وقال بعضهم : هي إشارة إلى كتاب منزل لم يعين وهذه دعوى لا حجة عليها ، وأما { الحكمة } ، فهي السنة التي يتكلم بها الأنبياء في الشرعيات والمواعظ ونحو ذلك ، مما لم يوح إليهم في كتاب ولا بملك ، لكنهم يلهمون إليه وتقوى غرائزهم عليه ، وقد عبر بعض العلماء عن { الحكمة } بأنها الإصابة في القول والعمل ، فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يعلم عيسى عليه السلام الحكمة ، والتعليم متمكن فيما كان من الحكمة بوحي أو مأثوراً عمن تقدم عيسى من نبي وعالم ، وأما ما كان من حكمة عيسى الخاصة به فإنما يقال فيها يعلمه على معنى يهيىء غريزته لها ويقدره ويجعله يتمرن في استخراجها ويجري ذهنه إلى ذلك ، و{ التوراة } هي المنزلة على موسى عليه السلام ، ويروى أن عيسى كان يستظهر التوراة وكان أعلم الناس بما فيها ، ويروى أنه لم يحفظها عن ظهر قلب إلا أربعة ، موسى ويوشع بن نون وعزير وعيسى عليهم السلام ، وذكر { الإنجيل } لمريم وهو ينزل - بعد - لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء وأنه سيزل .
جملة { ويعلّمه } معطوفة على جملة { ويكلّم الناس في المهد } [ آل عمران : 46 ] بعد انتهاء الاعتراض .
وقرأ نافع ، وعاصم : ويُعلّمه بالتحتِية أي يعلّمه اللَّهُ . وقرأه الباقون بنُون العظمة ، على الالتفات .
والكتاب مراد به الكتاب المعهود . وعطفُ التوراة تمهيد لعطف الإنجيل ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة وتقدم الكلام على التوراة والإنجيل في أول السورة .