{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }
أي : دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ذرية طيبة ، أي : طاهرة الأخلاق ، طيبة الآداب ، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم . فاستجاب له دعاءه .
عندئذ تحركت في نفس زكريا ، الشيخ الذي لم يوهب ذرية ، تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية . الرغبة في الذرية . في الامتداد . في الخلف . . الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد ، الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل . إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها :
( هنالك دعا زكريا ربه . قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء . . فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى ، مصدقا بكلمة من الله ، وسيدا وحصورا ، ونبيا من الصالحين . . قال : رب أنى يكون لي غلام ، وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر . قال : كذلك الله يفعل ما يشاء . قال : رب اجعل لي آية . قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ؛ واذكر ربك كثيرا ، وسبح بالعشي والإبكار )
وكذلك . . نجدنا أمام حادث غير عادي . يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية ، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر ، الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه ؛ ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون ! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه ، لأنه واقع ، صاغوا حوله الخرافات والأساطير !
فها هو ذا " زكريا " الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها . . ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف - وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة - فيتوجه إلى ربه يناجيه ، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة :
( هنالك دعا زكريا ربه . قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء ) . .
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لّدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَآءِ }
أما قوله : { هُنَالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ } فمعناه : عند ذلك ، أي عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رزقها ، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الاَدميين في ذلك لها ، ومعاينته عندها الثمرة الرطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندها في الأرض¹ طمع في الولد مع كبر سنه من المرأة العاقر ، فرجا أن يرزقه الله منها الولد مع الحال التي هما بها ، كما رزق مريم على تخليها من الناس ما رزقها ، من ثمرة الصيف في الشتاء ، وثمرة الشتاء في الصيف ، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العادات في الأرض ، بل المعروف في الناس غير ذلك ، كما أن ولادة العاقر غير الأمر الجارية به العادات في الناس ، فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد ، وسأله ذريّة طيبة . وذلك أن أهل بيت زكريا فيما ذكر لنا ، كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، قال : إن ربّا أعطاها هذا في غير حينه ، لقادر على أن يرزقني ذرّية طيبة . ورغب في الولد ، فقام فصلى ، ثم دعا ربه سرّا ، فقال : { رَبّ إِنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيْبا وَلَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا وَإنّي خِفْتُ المَوَالي مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأتي عاقِرا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلَيّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّا } . وقوله : { رَب هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُريّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ } . وقال : { رَبّ لا تَذَرْنِي فَرْدا وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فلما رأى ذلك زكريا يعني فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف عند مريم قال : إن الذي يأتي بهذا مريم في غير زمانه ، قادر أن يرزقني ولدا ! قال الله عزّ وجلّ : { هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ } قال : فذلك حين دعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة ، قال : فدخل المحراب ، وغلق الأبواب ، وناجى ربه ، فقال : { رَبّ إِنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبا } إلى قوله : { رَبّ رَضِيّا } { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم ، قال : فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ، ولا ولد له ، وقد انقرض أهل بيته ، فقال : { رَبّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ } ثم شكا إلى ربه ، فقال : { رَبّ إِنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبا } . . . إلى : { وَاجْعَلْهُ رَب رَضِيّا } { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ } . . . الاَية .
وأما قوله : { رَب هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً } فإنه يعني بالذرية : النسل ، وبالطيبة : المباركة . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { قال رَبّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً } يقول : مباركة .
وأما قوله : { مِنْ لَدُنْكَ } فإنه يعني من عندك . وأما الذرية : فإنها جمع ، وقد تكون في معنى الواحد ، وهي في هذا الموضع الواحد¹ وذلك أن الله عزّ وجلّ قال في موضع آخر مخبرا عن دعاء زكريا : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا } ولم يقل «أولياء » ، فدلّ على أنه سأل واحدا . وإنما أنث طيبة لتأنيث الذرية ، كما قال الشاعر :
أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى وأنْتَ خَلِيفَةٌ ، ذَاكَ الكمالُ
فقال : ولدته أخرى ، فأنث ، وهو ذكر لتأنيث لفظ الخليفة ، كما قال الاَخر :
كما يَزْدَرِي مِنْ حَيّةٍ جَبَلِيّةٍ سَكابِ إذا ما عَضّ ليسَ بأدْرَدَا
فأنث الجبلية لتأنيث لفظ الحية ، ثم رجع إلى المعنى فقال : إذا ما عضّ لأنه كان أراد حية ذكرا ، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه فلان من الأسماء كالدابة والذرية والخليفة ، فأما إذا سُمي رجل بشيء من ذلك ، فكان في معنى فلان لم يجز تأنيث فعله ولا نعته .
وأما قوله : { إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ } فإن معناه : إن سامع الدعاء ، غير أن سميع أمدح ، وهو بمعنى ذو سمع له ، وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه : إنك تسمع ما تدعي به .
فتأويل الاَية : فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال : ربّ هب لي من عندك ولدا مباركا ، إنك ذو سمع دعاء من دعاك .
{ هنالك دعا زكريا ربه } في ذلك المكان ، أو الوقت إذ يستعار هنا وثم وحيث للزمان ، لما رأى كرامة مريم ومنزلتها من الله تعالى . { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } كما وهبتها لحنة العجوز العاقر . وقيل لما رأى الفواكه في غير أوانها انتبه على جواز ولادة العاقر من الشيخ ، فسأل وقال هب لي من لدنك ذرية ، لأنه لم يكن على الوجوه المعتادة وبالأسباب المعهودة . { إنك سميع الدعاء } مجيبه .
هناك في كلام العرب إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان ، و{ هنالك } باللام أبلغ في الدلالة على البعد ، ولا يعرب{ هنالك } لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى ، ومعنى هذه الآية : أن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصالحات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، و«ذرية » اسم جنس يقع على واحد فصاعداً كما الولي يقع على اسم جنس كذلك ، وقال الطبري : إنما أراد هنا بالذرية واحداً ودليل ذلك طلبه ولياً ولم يطلب أولياء ، وأنث «طيبة » حملاً على لفظ «ذرية »كما قال الشاعر : [ الوافر ]
أبوك خليفةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى . . . وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذاكَ الْكَمَالُ{[3128]}
فما تزدري مِنْ حَيَّةٍ جَبليَّة ؟ . . . سِكَات إذا ما عضَّ لَيْسَ بأدْرَدا{[3129]}
وفيما قال الطبري تعقب وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكرياء عليه السلام ، و{ طيبة } معناه سليمة في الخلق والدين نقية ، و { سميع } في هذه الآية بناء اسم فاعل .
أي في المكان ، قبل أن يخرج ، وقد نبّهه إلى الدعاء مشاهدةُ خوارق العادة مع قول مريم : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } [ آل عمران : 37 ] والحكمةُ ضالة المؤمن ، وأهلُ النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون ، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه ، وقد كان في حَسرة من عدم الولد كما حكى الله عنه في سورة مريم . وأيضاً فقد كان حينئذ في مكان شَهد فيه فيضا إلاهياً . ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمْكنة بما حدث فيها من خير ، والأزمنة الصالحة كذلك ، وما هي إلاّ كالذوات الصالحة في أنها محالّ تجلّيات رضا الله .
وسأل الذرية الطيّبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة . ومشاهدةُ خوارق العادات خوّلت لزكرياء الدعاء بما هو من الخوارق ، أو من المستبعدات ، لأنّه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى ، لا سيما في زمن الفيض أو مكانه ، فلا يعد دعاؤه بذلك تجاوزاً لحدود الأدب مع الله على نحو ما قرّره القرافي في الفرق بين ما يجوز من الدعاء وما لا يجوز . وسميع هنا معنى مجيب .