ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها . فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة . خطر الموت الكامن في محاولة الخروج - وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة ، ولا يسمحون لهم بالهجرة عندما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين - ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة . ومن هنا تجيء اللمسة الثانية :
( كل نفس ذائقة الموت . ثم إلينا ترجعون ) . .
فالموت حتم في كل مكان ، فلا داعي أن يحسبوا حسابه ، وهم لا يعلمون أسبابه . وإلى الله المرجع والمآب . فهم مهاجرون إليه ، في أرضه الواسعة ، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف . وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة . فمن ذا يساوره الخوف ، أو يهجس في ضميره القلق ، بعد هذه اللمسات ?
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنّهُمْ مّنَ الْجَنّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب نبيه : هاجِرُوا من أرض الشرك من مكة ، إلى أرض الإسلام المدينة ، فإن أرضي واسعة ، فاصبروا على عبادتي ، وأخلِصوا طاعتي ، فإنكم ميتون ، وصائرون إليّ ، لأن كل نفس حية ذائقة الموت ، ثم إلينا بعد الموت تُرَدّون . ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما أعدّ للصابرين منهم على طاعته ، من كرامته عنده ، فقال : والّذين آمنوا ، يعني صدّقوا الله ورسوله ، فيما جاء به من عند الله ، وعَمِلوا الصّالِحاتِ : يقول : وعملوا بما أمرهم الله فأطاعوه فيه ، وانتهوا عما نهاهم عنه لَنُبَوّئَنّهُمْ مِنَ الجَنّةِ غُرَفا يقول : لننزلنهم من الجنة عَلاليّ .
واختلفت القُرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : لَنُبَوّئَنّهُمْ بالباء وقرأته عامة قرّاء الكوفة بالثاء : «لَنُثْوِيَنّهُمْ » .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القُرّاء ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وذلك أن قوله : لَنُبَوّئَنّهُمْ من بوأته منزلاً : أي أنزلته ، وكذلك لنُثْوينهم إنما هو من أثويته مَسْكَنا إذا أنزلته منزلاً ، من الثواء ، وهو المُقام .
وقوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول : تجرى من تحت أشجارها الأنهار . خالِدِينَ فِيها يقول : ماكثين فيها إلى غير نهاية نِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ يقول : نعم جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرفُ التي يُثْوِيهُمُوها الله في جَنّاته ، تجري من تحتها الأنهار ، الذين صبروا على أذى المشركين في الدنيا ، وما كانوا يَلْقون منهم ، وعلى العمل بطاعة الله وما يرضيه ، وجهاد أعدائه وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ في أرزاقهم وجهاد أعدائهم ، فلا يَنْكُلون عنهم ثقة منهم بأن الله مُعْلِي كلمته ، ومُوهِن كيد الكافرين ، وأن ما قُسم لهم من الرزق فلن يَفُوتَهم .
وقوله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه أنه يموت أو يجوع ونحو هذا ، فحقر الله تعالى شأن الدنيا ، أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا ، فالبدار إلى إلى طاعة الله عز وجل والهجرة إليه أولى ما يمتثل ، وقرأ الجمهور «ترجعون » بالتاء من فوق ، ورويت عن عاصم بالياء من تحت وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو ، وقرأ أبو حيوة «كل نفس ذائقةٌ » بالتنوين «الموتَ » بالنصب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم الموت ليهاجروا، فقال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون} في الآخرة بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب نبيه: هاجِرُوا من أرض الشرك من مكة، إلى أرض الإسلام المدينة، فإن أرضي واسعة، فاصبروا على عبادتي، وأخلِصوا طاعتي، فإنكم ميتون، وصائرون إليّ، لأن كل نفس حية ذائقة الموت، ثم إلينا بعد الموت تُرَدّون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كل نفس ذائقة الموت} ذكر هذا، والله أعلم، على إثر ما ذكر لئلا يمنعهم عن الخروج والهجرة خوف ضيق العيش، يقول، والله أعلم: كل نفس تذوق الموت إذا استوفت رزقها، لا محالة، ولا تذوق قبل استيفائها رزقها. فلا يمنعكم خوف ضيق العيش، فإنها تذوق ذلك، لا محالة، خرجت أم لم تخرج، إذا استوفت رزقها. وهو ما قال: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} [آل عمران: 154] أي لو كان المكتوب عليه القتل لبرز، لا محالة، حتى يقتل. فعلى ذلك المكتوب عليه الموت يذوق، لا محالة، لو أقام، والله أعلم {ثم إلينا ترجعون}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أخبر تعالى أن "كل نفس "أحياها الله بحياة خلقها فيها "ذائقة الموت" والذائق: الواجد للجسم بحاسة إدراك الطعم. "ثم الينا ترجعون" أي تردون إلينا فنجازيكم على قدر استحقاقكم من الثواب والعقاب. وفي ذلك غاية التهديد والزجر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعتْ، أتبعه قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} أي واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق. ومعناه: إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها، كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه أنه يموت أو يجوع ونحو هذا، فحقر الله تعالى شأن الدنيا، أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا، فالبدار إلى طاعة الله عز وجل والهجرة إليه أولى ما يمتثل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الهجرة شديدة المرارة لأنها مرت في المعنى من حيث كونها مفارقة المألوف المحبوب من العشير والبلد والمال، وكان في الموت ذلك كله بزيادة، قال مؤكداً بذلك مذكراً به مرهباً من ترك الهجرة: {كل نفس ذائقة الموت} أي مفارقة كل ما ألفت حتى بدناً طالما لابسته، وآنسها وآنسته، فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة في الأجل شيئاً، وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً، فإذا قدر الإنسان أنه مات سهلت عليه الهجرة، فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت، وما ذكر الموت في عسير إلا يسره، ولا يسير إلا عسره وكدره. ولما هوّن أمر الهجرة، حذر من رضي في دينه بنوع نقص لشيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزود للمعاد فقال: {ثم إلينا} على عظمتنا، لا إلى غيرنا {ترجعون} على أيسر وجه، فيجازي كلاً منكم بما عمل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها. فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة. خطر الموت الكامن في محاولة الخروج -وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة، ولا يسمحون لهم بالهجرة عندما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين- ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة. ومن هنا تجيء اللمسة الثانية:
(كل نفس ذائقة الموت. ثم إلينا ترجعون)..
فالموت حتم في كل مكان، فلا داعي أن يحسبوا حسابه، وهم لا يعلمون أسبابه. وإلى الله المرجع والمآب. فهم مهاجرون إليه، في أرضه الواسعة، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف. وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة. فمن ذا يساوره الخوف، أو يهجس في ضميره القلق، بعد هذه اللمسات؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعتراض ثان بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها تأكيد الوعيد الذي تضمنته جملة: {والذين ءامنوا بالباطل} [العنكبوت: 52] إلى آخرها، والوعد الذي تضمنته جملة: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنُبَوِّئَنَّهُم من الجنة غُرفاً} [العنكبوت: 58] أي الموت مُدرك جميع الأنفس ثم يرجعون إلى الله. وقصد منها أيضاً تهوين ما يلاقيه المؤمنون من الأذى في الله ولو بلغ إلى الموت بالنسبة لما يترقبهم من فضل الله وثوابه الخالد، وفيه إيذان بأنهم يترقبهم جهاد في سبيل الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأي أحد، فبعض يمضي عاجلا، وبعض يتأخر، ولابدّ أن يذهبوا جميعاً، وعلى كل حال ففراق الأحبة والأبناء والأقارب لابدّ أن يقع ويتحقق، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة.. وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله، أكلّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيّام أو أكثر؟!
ثمّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديار الكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الاسلام، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!
ثمّ لا تظنوا أن الموت نهاية كل شيء، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية، لأنّكم جميعاً (إلينا ترجعون).. إلى الله العظيم، وإلى نعمه التي لا حدّ لها ولا انتهاء لأمدها.