{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }
ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها ، وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت { يا مريم إن الله اصطفاك } أي : اختارك { وطهّرك } من الآفات المنقصة { واصطفاك على نساء العالمين } الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة ، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين ، إما على عالمي زمانها ، أو مطلقا ، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة ، لم يناف الاصطفاء المذكور .
وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيدا - في السياق - لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات . . وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة . . فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام . وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة . .
( وإذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) . .
وأي اصطفاء ؟ ! وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة ، كما تلقاها أول هذه الخليقة : " آدم " ؟ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها ؟ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية . . وهو بلا جدال أمر عظيم . .
ولكنها - حتى ذلك الحين - لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم !
والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى . وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة ، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سرا لا يشرف . . قبحهم الله ! !
وهنا تظهر عظمة هذا الدين ؛ ويتبين مصدره عن يقين . فها هو ذا محمد [ ص ] رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب - ومنهم النصارى - ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات . . ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على " نساء العالمين " بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق . وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم ، ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد !
أي صدق ؟ وآية عظمة ؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين ، وصدق صاحبه الأمين !
إنه يتلقى " الحق " من ربه ؛ عن مريم وعن عيسى عليه السلام ؛ فيعلن هذا الحق ، في هذا المجال . . ولو لم يكن رسولا من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال !
{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَمَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىَ نِسَآءِ الْعَالَمِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : والله سميع عليم { إذْ قالتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرّرا } ، { وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفاكِ } .
ومعنى قوله : { اصْطَفاكِ } اختارك واجتباك لطاعته ، وما خصك به من كرامته . وقوله : { وَطَهّرَكِ } يعني : طهر دينك من الريب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم . { وَاصْطَفاكِ على نِساءِ العَالَمِينَ } يعني : اختارك على نساء العالمين في زمَانك بطاعتك إياه ، ففضلك عليهم . كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ » يعني بقوله : خير نسائها : خير نساء أهل الجنة .
حدثني بذلك الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا محاضر بن المورّع ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : سمعت عليا بالعراق ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «خَيْرُ نِسائها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني المنذر بن عبد الله الخزامي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «خَيْرُ نِساءِ الجَنّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَخَيْرُ نِساءِ الجَنّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطفاكِ على نِساءِ العالَمِينَ } ذكر لنا أن نبيّ الله ، كان يقول : «حَسْبُكَ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ ، وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ ، وَفاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمّدٍ مِنْ نِساءِ العالَمِينَ » . قال قتادة : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَوَالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ ، أحْناهُ على وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ ، وأرْعاهُ على زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ » . قال قتادة : وذكر لنا أنه كان يقول : «لَوْ عَلِمْتُ أنّ مَرْيَمَ رَكِبَتِ الإبِلَ ما فَضّلْتُ عَلَيْهَا أحَدا » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ على نِساءِ العَالَمِينَ } قال : كان أبو هريرة يحدّث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صُلّحُ نِساءِ قُرَيْشٍ أحْناهُ على وَلَدٍ وأرْعاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ » قال أبو هريرة : ولم تركب مريم بعيرا قط .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : { وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ على نِساءِ العالَمِينَ } قال : كان ثابت البناني يحدّث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «خَيْرُ نِساءِ العالَمِينَ أرْبَعٌ : مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمّدٍ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا عمرو بن مرّة ، قال : سمعت مرّة الهمداني يحدّث عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَمُلَ مِنَ الرّجالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النّساءِ إلاّ مَرْيَمُ وآسِيَةُ امْرأةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمّدٍ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو الأسود المصري ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان ، أن فاطمة بنت حسين بن عليّ حدثته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وأنا عند عائشة ، فناجاني ، فبكيت ، ثم ناجاني ، فضحكت ، فسألتني عائشة عن ذلك ، فقلت : لقد عجلتِ ، أخبرك بسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فتركتني ، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألتها عائشة ، فقالت : نعم ، ناجاني فقال : «جِبْرِيلُ كانَ يُعارِضُ القُرْآنَ كُلّ عامٍ مَرّةً ، وَإنّهُ قَدْ عارَضَ القُرْآنَ مَرّتَيْنِ ، وَإنّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيّ إلاّ عُمّرَ نِصْفُ عُمْرِ الّذِي كَانَ قَبْلَهُ ، وَإنّ عِيسىَ أخِي كانَ عُمْرُهُ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ ، وَهَذِهِ لِي سِتّونَ ، وأحْسِبُنِي مَيّتا فِي عامِي هَذَا ، وَإنّهُ لَمْ تُرْزأ امْرأةٌ مِنْ نِساءِ العَالَمِينَ بِمِثْلِ مَا رُزِئْتِ ، وَلا تَكُونِي دُونَ امْرأةٍ صَبْرا » . قالت : فبكيت ، ثم قال : «أَنْتِ سَيّدَةُ نِساءِ أهْلِ الجَنّةِ إلاّ مَرْيَمَ البَتُولَ » فتُوفي عامه ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو الأسود ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن عمرو بن الحارث ، أن أبا زياد الحميريّ حدثه ، أنه سمع عمار بن سعد يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فُضّلَتْ خَدِيجَةُ على نِساءِ أُمّتِي كَما فُضّلَتْ مَرْيَمُ عَلى نِساءِ العَالَمِينَ » .
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله : { وَطَهّرَكِ } : أنه وطهر دينك من الدنس والريب ، قال مجاهد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إنّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهّرَكِ } قال : جعلك طيبة إيمانا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَاصْطَفاكِ على نِساءِ العالَمِينَ } قال : ذلك للعالمين يومئذ .
وكانت الملائكة فيما ذكر ابن إسحاق تقول ذلك لمريم شفاها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : كانت مريم حبيسا في الكنيسة ، ومعها في الكنيسة غلام اسمه يوسف ، وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا ، فكانا في الكنيسة جميعا ، وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف ، أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذبان منه ، فيملآن قلتيهما ، ثم يرجعان إلى الكنيسة ، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم : { يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفاكِ على نِساءِ العَالَمِينَ } فإذا سمع ذلك زكريا ، قال : إن لابنة عمران لشأنا .
{ وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين } كلموها شفاها كرامة لها ، ومن أنكر الكرامة زعم أن ذلك كانت معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإن الإجماع على أنه سبحانه وتعالى لم يستنبئ امرأة لقوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا } . وقيل ألهموها ، والاصطفاء الأول تقبلها من أمها ولم يقبل قبلها أنثى وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنة عن الكسب وتطهيرها عما يستقذر من النساء . والثاني هدايتها وإرسال الملائكة إليها ، وتخصيصها بالكرامات السنية كالوالد من غير أب وتبرئتها مما قذفتها به اليهود بإنطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قالت الملائكة يا مريم}، وهي في المحراب، {إن الله اصطفاك}: اختارك، {وطهرك} من الفاحشة والألم، {واصطفاك}: واختارك، {على نساء العالمين} بالولد من غير بشر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: والله سميع عليم {إذْ قالتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرّرا}، {وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفاكِ}.
ومعنى قوله: {اصْطَفاكِ}: اختارك واجتباك لطاعته، وما خصك به من كرامته. {وَطَهّرَكِ}: طهر دينك من الريب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم. {وَاصْطَفاكِ على نِساءِ العَالَمِينَ}: اختارك على نساء العالمين في زمَانك بطاعتك إياه، ففضلك عليهم. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» يعني بقوله: خير نسائها: خير نساء أهل الجنة.
عن قتادة قوله: {وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطفاكِ على نِساءِ العالَمِينَ} ذكر لنا أن نبيّ الله، كان يقول: «حَسْبُكَ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَفاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمّدٍ مِنْ نِساءِ العالَمِينَ». قال قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَوَالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ، أحْناهُ على وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وأرْعاهُ على زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ». وكانت الملائكة فيما ذكر ابن إسحاق تقول ذلك لمريم شفاها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله اصطفاك} أي: اصطفاك لعبادة نفسه، وخصها له، ما لم يكن ذلك لأحد من النساء، فيكون بذلك صفوتها، وقيل: اصطفاها بولادة عيسى عليه السلام إذا خرج منها نبيا مباركا تقيا على خلاف ولادة البشر...
{وطهرك} قيل: من الآثام والفواحش، وقيل: {وطهرك} من مس الذكور وما قذفت به...
{واصطفاك على نساء العالمين}: هو ما ذكرنا من صفوتها أن جعلها لعبادة نفسه خالصة، أو ما قد ولدت من غير أب على خلاف سائر البشر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يامريم} روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوّة عيسى... {اصطفاك} أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية... {وَطَهَّرَكِ} مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود... {على نِسَاء العالمين} بأن وهب لك عيسى من غير أب؛ ولم يكن ذلك لأحد من النساء...
ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولا من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها. النوع الأول من الاصطفاء: فهو أمور:
أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث ...
وثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة.
ورابعها: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى: {أنى لك هذا قالت هو من عند الله}.
وخامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول،...
أحدها: أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33].
وثانيها: أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال.
ورابعها: وطهرك من الأفعال الذميمة، والعادات القبيحة.
وخامسها: وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
وأما الاصطفاء الثاني: فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، وجعلها وابنها آية للعالمين.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 38]
توجيه لعباده المؤمنين حتى يملؤوا قلوبهم بمثل هذا الأمل والرجاء، وهو في نفس الوقت تنويه (بالذرية الطيبة) التي هي من نعم الله الكبرى الجديرة بالابتهال والدعاء... غير أن الذرية المرغوبة والمطلوبة هي الذرية (الطيبة) كما في دعاء زكرياء، لا الذرية الخبيثة، "وطيب الذرية "مرجعه في أغلب الأحوال إلى طيب منبتها، أي إلى طيب الأسرة وحسن تربيتها، وإلى قدرتها على تحمل مسؤوليتها، من الوجهتين الروحية والمادية، الدينية والدنيوية، وإلا كانت الذرية نقمة لا نعمة، نقمة على نفسها أولا، ونقمة على أسرتها ثانيا، ونقمة على وطنها كله في نهاية الأمر، وعلى مثل هذا النوع من الذرية التي لا ينبغي أن يترك لها الحبل على الغارب ينطبق قوله تعالى: {يَأيُّهَا الذِينَ امَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً} وذلك حتى لا يستشري فيها الفساد، ويضيع منها الرشاد، فينطبق عليها حينئذ قوله تعالى: {إِنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولاَدِكُم عَدُواًّ لَكُم فاحذَرُوهُم}...
قال جبريل مبلغا عن رب العزة: {يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} وما الاصطفاء؟ إن الاصطفاء اختيار واجتباء، وهو مأخوذ من الصفو أو الصافي، أي الشيء الخالص من الكدر. وعادة تؤخذ المعاني من المحسات، وعندما تقول الماء الصافي أي الماء غير المكدر،... أو كما يقول الحق: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15]...
وعندما يقول الحق: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} نحن هنا أمام اصطفاءين، الاصطفاء الأول ورد دون أن تسبقه كلمة "على "والاصطفاء الثاني تسبقه كلمة "على" والمقصود بالاصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان، والصلاح والخلق الطيب، ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجردا عن "على" أي أن هذا الاصطفاء الأول لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الاصطفاء آخرون، بدليل قول الحق: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]. ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق ب "على" فقال {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} إذن فهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعا يتعلق بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها هذا الاصطفاء. لماذا؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر، وهذه مسألة لن يشاركها فيها أحد...
والمصطفى هو الله، لكن ما علة الاصطفاء؟ إن الذي يصطفيه الله إنما يصطفيه لمهمة، وتكون مهمة صعبة. إذن هو يصطفيه حتى يشيع اصطفاؤه في الناس. كأن الله قد خصه بالاصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم، سواء أكان هذا الاصطفاء لمكان أم لإنسان أم لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى عليه. لقد اصطفى الله الكعبة من أجل ماذا؟ حتى يتجه كل إنسان إلى الكعبة. إذن فقد اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر، ولذلك قال الحق عن الكعبة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]. وإذا اصطفى الحق سبحانه زمانا، كاصطفائه لرمضان، فلماذا اصطفاه؟ ليشيع صفاؤه، وصفاء ما أنزل فيه في كل زمان. إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو لمصلحة بقية الناس أو الأمكنة أو الأزمنة، لماذا؟ لأن أحدا من الخلق ليس ابنا لله، وليس هناك مكان أولى بمكان عند الله. ولكن الله يصطفي زمانا على زمان، ومكانا على مكان، وإنسانا على إنسان ليشيع اصطفاء المُصطفى في كل ما اصطُفِىَ عليه. إذن فهل يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى، أو لا يفرحوا به؟ إن عليهم أن يفرحوا به؛ لأنه جاء لمصلحتهم...