{ 40 ، 41 } { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }
يقول تعالى لرسوله : { قُلْ } للمشركين بالله ، العادلين به غيره : { أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : إذا حصلت هذه المشقات ، وهذه الكروب ، التي يضطر إلى دفعها ، هل تدعون آلهتكم وأصنامكم ، أم تدعون ربكم الملك الحق المبين .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . .
اختلف أهل العربية في معنى قوله : أرأيْتَكُمْ فقال بعض نحويّي البصرة : الكاف التي بعد التاء من قوله : أرأيْتَكُمْ إنما جاءت للمخاطبة ، وتركت التاء مفتوحة كما كانت للواحد ، قال : وهي مثل كاف رُوَيدك زيدا ، إذا قلت : أرود زيدا ، هذه الكاف ليس لها موضع مسمى بحرف لا رفع نصب ، وإنما هي في المخاطبة مثل كاف ذاك ، ومثل ذلك قول العرب : أبصرك زيدا ، يدخلون الكاف للمخاطبة .
وقال آخرون منهم : معنى : أرأيْتَكُمْ إنْ أتاكُمْ أرأيتم ، قال : وهذه الكاف تدخل للمخاطبة مع التوكيد ، والتاء وحدها هي الاسم ، كما أدخلت الكاف التي تفرّق بين الواحد والاثنين والجميع في المخاطبة كقولهم : هذا ، وذاك ، وتلك ، وأولئك ، فتدخل الكاف للمخاطبة وليست باسم ، والتاء هو الاسم للواحد والجميع ، تُرِكَتْ على حال واحدة ، ومثل ذلك قولهم : ليسك ثم إلاّ زيد ، يراد : ليس ولا سِيّك زيد ، فيراد : ولا سيما زيد ، وبلاك ، فيراد بلى ، في معنى : ولبئسك رجلاً ولنعمك رجلاً وقالوا : انظرك زيدا ما أصنع به ، وأبصرك ما أصنع به ، بمعنى أبصرُه . وحكى بعضهم : أبصركم ما أصنع به ، يراد : أبصروا ، وانظركم زيدا : أي انظروا . وحكي عن بعض بني كلاب : أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة ؟ فأدخل الكاف . وقال بعض نحوّيي الكوفة : أرأيتك عمرا أكثرُ الكلام ، فيه ترك الهمز . قال : والكاف من أرأيتك في موضع نصب ، كأن الأصل : أرأيت نفسك على غير هذه الحال ؟ قال : فهذا يثنى ويجمع ويؤنث ، فيقال : أرأيتما كما وأرأيتموكم وأرَيْتُنّكُنّ أوقع فعله على نفسه ، وسأله عنها ، ثم كثر به الكلام حتى تركوا التاء موحدة للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع ، فقالوا : أرأيتكم زيدا ما صنع ، وأرأيتكن زيدا ما صنع ، فوحدوا التاء وثّنُوا الكاف وجمعوها فجعلوها بدلاً من التاء ، كما قال : هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ وهاءَ يا رجل ، وهاؤُما ، ثم قالوا : هاكم ، اكتفى بالكاف والميم مما كان يثنى ويجمع ، فكأن الكاف في موضع رفع إذ كانت بدلاً من التاء ، وربما وحدت للتثنية والجمع والتذكير والتأنيث ، وهي كقول القائل : عليك زيدا ، الكاف في موضع خفض ، والتأويل رفع . فأما ما يجلب فأكثر ما يقع على الأسماء ، ثم تأتي بالاستفهام ، فيقال : أرأيتك زيدا هل قام ، لأنها صارت بمعنى : أخبرني عن زيد ، ثم بين عما يستخبر ، فهذا أكثر الكلام ، ولم يأت الاستفهام ثنيها ، لم يقل : أرأيتك هل قمت ، لأنهم أرادوا أن يبينوا عمن يسأل ، ثم تبين الحالة التي يسأل عنها ، وربما جاء بالخير ولم يأت بالاسم ، فقالوا : أرأيت زيدا هل يأتينا ، وأرأيتك أيضا ، وأرأيت زيدا إن أتيته هل يأتينا إذا كانت بمعنى أخبرني ، فيقال باللغات الثلاث .
وتأويل الكلام : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام ، أخبروني إن جاءكم أيها القوم عذاب الله ، كالذي جاء من قبلكم من الأمم الذين هلك بعضهم بالرجفة ، وبعضهم بالصاعقة ، أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم وتبعثون لموفق القيامة ، أغير الله هناك تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول : إن كنتم محقّين في دعواكم وزعمكم أن آلهتكم تدعونها من دون الله تنفع أو تضرّ .
استئناف ابتدائي يتضمّن تهديداً بالوعيد طرداً للأغراض السابقة ، وتخلّله تعريض بالحثّ على خلع الشرك إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم ، فذُكِّروا بأحوال قد تعرض لهم يلجأون فيها إلى الله . وألقي عليهم سؤال أيستمرون على الإشراك بالله في تلك الحالة وهل يستمرّون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجأون إلى الإيمان بوحدانيته ، ولات حينَ إيمان .
وافتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماماً به وإلاّ فإنّ معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم . وقد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله : { لكلّ نبأ مستقرّ } [ الأنعام : 67 ] اثنتي عشرة مرّة . وورد نظيره في سورة يونس .
وقوله : { أرأيتكم } تركيب شهير الاستعمال ، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به . وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري .
و ( رأى ) فيه بمعنى الظنّ . يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة ، وهي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب وصنفه سواء كان مفرداً أو غيره ، مذكّراً أو غيره ، ويجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالباً ضمير خطاب عائداً إلى فاعل الرؤية القلبية ومستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب . والمعنى أنّ المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب ، فالمخاطب فاعل ومفعول باختلاف الاعتبار ، فإنّ من خصائص أفعال باب الظنّ أنّه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها واحداً ( وألحق بأفعال العلم فعلان : فقَد ، وعَدِم في الدعاء نحو فقدتُني ) ، وتقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني ، وقد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل .
هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب . وبعض النحاة يجعل تلك الجملة سادّة مسدّ المفعولين تفصّياً من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرّد علامات خطاب لا محلّ لها من الإعراب ، وذلك حفاظاً على متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أنّ لغرائب الاستعمال أحوالاً خاصّة لا ينبغي غضّ النظر عنها إلاّ إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلّمين . ولا يخفى أنّ ما ذهبوا إليه هو أشدّ غرابة وهو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة ومرجعهما متَّحد . وعلى الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة : { أغير الله تدعون } .
وإنّما تركت التاء على حالة واحدة لأنّه لمَّا جعلتْ ذاتُ الفاعل ذات المفعول إعراباً وراموا أن يجعلوا هذا التركيب جارياً مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنّبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع ومنصوب من الثقل في نحو أرأيتما كُما ، وأرأيتُمْكُم وأريْتُنُّكُنّ ، ونحو ذلك ، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا بالاختلاف حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصاراً وتخفيفاً ، وبذلك تأتَّى أن يكون هذا التركيب جارياً مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلاً لشيوع استعماله استعمالاً خاصّاً لا يغيّر عنه ، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنّث ولا تضمّ في خطاب المثنّى والمجموع .
وعن الأخفش : أخرجت العرب هذا اللفظ من معناه بالكلية فألزمته الخطاب ، وأخرجته عن موضوعه إلى معنى ( أمّا ) بفتح الهمزة ، فجعلت الفاء بعده في بعض استعمالاته كقوله تعالى : { أرأيتَ إذْ أويْنَا إلى الصخرة فإنّي نسيت الحوت } [ الكهف : 63 ] فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت ( أرأيت ) لمعنى ( أمّا ) ؛ وأخرجته أيضاً إلى معنى ( أخبرني ) فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه ؛ وتلزم الجملة بعد الاستفهام ، وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرفِ الزمان . اهـ .
في « الكشاف » : متعلِّق الاستخبار محذوف ، تقديره : إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون ، ثم بكتهم بقوله { أغير الله تدعون } ، أي أتخصّون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بل إيَّاه تدعون اهـ . وجملة : { أغير الله تدعون } هي المفعول الثاني لفعل { أرأيتكم } .
واعلم أنّ هذا استعمال خاصّ بهذا التركيب الخاصّ الجاري مجرى المثل ، فأمّا إذا أريد جريان فعل الرؤية العلمية على أصل بابه فإنَّه يجري على المتعارف في تعدية الفعل إلى فاعله ومفعوليه . فمن قال لك : رأيتُني عالماً بفلان . فأردت التحقّق فيه تقول : أرأيتَك عالماً بفلان . وتقول للمثنّى : أرأيتماكما عالمين بفلان ، وللجمع أرأيتُموكُم وللمؤنثة أرأيتِك بكسر التاء .
وقرأه نافع في المشهور بتسهيل الهمزة ألفاً ؛ وعنه رواية بجعلها بين الهمزة والألف . وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي هي عين الكلمة ، فيقول : { أرَيْت } وهي لغة . وقرأه الباقون بتحقيق الهمزة .
وجملة : { إن أتاكم عذاب الله } الخ معترضة بني مفعولي فعل الرؤية ، وهي جملة شرطية حذف جوابها لدلالة جملة المفعول الثاني عليه .
وإتيان العذاب : حلوله وحصوله ، فهو مجاز لأن حقيقة الإتيان المجيء ، وهو الانتقال من موضع بعيد إلى الموضع الذي استقر فيه مفعول الإتيان ، فيطلق مجازاً على حصول شيء لم يكن حاصلاً . وكذلك القول في إتيان الساعة سواء .
ووجه إعادة فعل { أتتكم الساعة } مع كون حرف العطف مغنياً عن إعادة العامل بأن يقال : إن أتاكم عذاب الله أو الساعة ، هو ما يوجَّه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمُظْهَر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنّه أقوى استقراراً في ذهن السامع .
والاهتمام هنا دعا إليه التهويل وإدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرّح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدّالّ على أمر مهول ليدلّ تعلّق هذا الفعل بالمفعول على تهويله وإراعته .
وقد استشعر الاحتياجَ إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عَرفة في درس تفسيره ، ولكنَّه وجّهه بأنَّه إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشدّ يعاد العامل بعد حرف العطف إشعاراً بالتفاوت ، فإنّ إتيان العذاب أشدّ من إتيان الساعة ( أي بناء على أنّ المراد بعذاب الله عذاب الآخرة ) أو كان العاملان متباعدين ، فإن أريد بالساعة القيامة وبعذاب الله المحْقُ والرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامَّة .
وإن أريد بالساعة المدّة فالمحق الدنيوي كثير ، منه متقدّم ومنه متأخِّر إلى الموت ، فالتقدّم ظاهر اه . وفي توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال .
وإضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين . والمراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى الله لرفعه عنهم بدليل قوله { أغير الله تدعون } ، فإنّ الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء . وهذا تهديد وإنذار .
والساعة : علَم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا ، أي إن أدركتْكم الساعة .
وتقديم { أغير الله } على عامله وهو { تدعون } لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر ، أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن ، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الردّ على الغير . وقد دلّ الكلام على التعجّب ، أي تستمرّون على هذه الحال . والكلام زيادة في الإنذار .
وجملة { إن كنتم صادقين } مستأنفة ، وجوابها محذوف دلّ عليه قوله : { أرأيتكم } الذي هو بمعنى التقرير . فتقدير الجواب : إن كنتم صادقين فأنتم مقرّون بأنَّكم لا تدعون غير الله . ذَكّرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنّه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم ، فهم إن توخّوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا التأمّل فلا يسعهم إلاّ الاعتراف بأنّ الله إذا شاء شيئاً لا يدفعه غيرُه إلاّ بمشيئته ، لأنّهم يعترفون بأنّ الأصنام إنَّما تقرّبهم إلى الله زلفى ، فإذا صدقوا وقالوا : أندعوا الله ، فقد قامت الحجّة عليهم من الآن لأنّ من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر .