الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (40)

قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُم } : يجوز نَقْلُ حركة همزة الاستفهام إلى لام " قُلْ " وتحذف الهمزة تخفيفاً وهي قراءة ورش ، وهو تسهيل مطرَّد ، وأرأيتكم هذه بمعنى أَخْبِرْني ، ولها أحكام تختص بها ، اضطربت أقوال الناس فيها ، وانتشر خلافهم فلا بد من التعرُّض لذلك فأقول :

" أرأيْتَ " إن كانت البصَريَة أو العِلْميةَ الباقيةَ على معناها أو التي لإِصابة الرئة كقولهم : " رَأَيْتُ الطائر " أي : أصبت رِئَته ، لم يَجُزْ فيها تخفيفُ الهمزةِ التي هي عينُها ، بل تُحَقَّق ليس إلا ، أو تُسَهَّل بينَ بينَ من غير إبدال ولا حذف ، ولا يجوز أن تَلْحَقَها كافٌ على أنها حرف خطاب ، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أولَ ويكون مطابقاً لما يُراد به من تذكير وتأنيثٍ وإفراد وتثنية وجمع ، وإذا اتَّصَل‍َتْ بها تاءُ خطاب لَزِم مطابقتُها لما يُراد بها ممَّا ذُكِر ، ويكون ضميراً فاعلاً نحو : أرأيتم ، أرأيتما أرأيتنَّ ، ويدخلها التعليق والإِلغاء .

وإن كانت العِلْميَّةَ التي ضُمِّنَتْ معنى " أخبرني " اختصَّتْ بأحكامٍ أُخَرَ منها : أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفاً ، وهي مَرْوِيَّةٌ عن نافع من طريق ورش ، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُون إبدالَ هذه الهمزةِ ألفاً ، بل المشهورُ عندهم تسهيلُها بين بين ، وهي الرواية المشهورة عن نافع ، لكنه قد نَقَل الإِبدالَ المحض قطربٌ وغيرُه من اللغويين . قال بعضهم : " هذا غَلَطٌ غُلِطَ عليه " أي على نافع . وسببُ ذلك أن يؤدِّي إلى الجمع بين ساكنين فإن الياء بعدها ساكنة . ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافع وغيرهما من أهل المدينة أنهم يُسْقطون الهمزة ، ويَدِّعون أن الألف خَلَفٌ منها . قلت : وهذه العبارة تُشْعر أن هذه الألف ليست بدلاً عن الهمزة ، بل جيء بها عوضاً عن الهمزة الساقطة .

وقال مكي ، بن أبي طالب : " وقد رُوي عن ورش إبدالُ الهمزة ألفاً ، لأن الرواية عنه أنه يَمُدُّ الثانية ، والمدُّ لا يتمكَّن ، إلا مع البدل ، وحسَّن جوازُ البدلِ في الهمزة وبعدها ساكنٌ أنَّ الأولَ حرفُ مَدٍّ ولين ، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقومُ مقامَ حركةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى النطق بالساكن " وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا عند قوله " أأنذرتهم " . ومنها : أن تُخْذَفَ الهمزة التي هي عين الكلمة ، وبها قرأ الكسائي ، وهي فاشيةٌ نظماً ونثراً ، فَمِنَ النظم قوله :

أرَيْتَ ما جاءت به أُمْلُودا *** مُرَجَّلاً ويلبسُ البُرودا

أقائِلُنَّ أحضِروا الشهودا

وقال آخر :

أرَيْتُكَ إذ هُنَّا عليك الم تَخَفْ *** رقيباً وحولي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ

وأنشد الكسائي لأبي الأسود :

أَرَيْتَ امرَأً كنت لم أَبْلُهُ *** أتاني فقال اتَّخِذْني خليلا

وزعم الفراء أن هذه اللغة لغة أكثر العرب ، قال : " في أَرَأيْتَ لغتان ومعنيان ، أحدهما : أن يسأل الرجل : أرأيت زيداً ، أي : أعلمت ، فهذه مهموزة ، وثانيهما : أن تقول : أرأيت بمعنى أَخْبِرْني ، فههنا تُتْرك الهمزة إن شِئْتَ وهو اكثرُ كلامِ العرب ، تُوْمِئ إلى تَرْك الهمزِ للفرق بين المعنيين " انتهى .

وفي كيفيَّةِ حَذْفِ هذه الهمزة ثلاثةُ أوجه ، أحدها : - وهو الظاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجمعُ بين همزتين في فِعْلٍ اتصل به ضمير ، فَخَفَّفَه بإسقاط إحدى الهمزتين ، وكانت الثانيةُ أَوْلى لأنها حَصَل بها الثقلُ ، ولأنَّ حَذْفَها ثابتٌ في مضارع هذا الفعل نحو أرى ، ويرى ، ونرى ، وترى ، ولأنَّ حذف الأولى يُخلُّ بالتفاهم إذ هي للاستفهام والثاني : أنه أبدل الهمزة ألفاً كما فَعَل نافعٌ في رواية ورش فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الألف ، والثالث : أنه أبدلها ياءً ثم سكَّنها ثم حَذَفَها لالتقاء الساكنين ، قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ ، ثم قال : " وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مستقبل هذا الفعل " يعني في يرى وبابه . ورجَّح بعضُهم مذهبَ الكسائيّ بأن الهمزة قد اجتُرِئ عليها بالحذف ، وأنشد :

إنْ لم أُقاتِلْ فالبِسَوني بُرْقُعا

وأنشد لأبي الأسود :

يابا المُغِيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضِلٍ *** فرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها

وقولهم : { وَيْلُمِّه } وقوله :

وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دَمِها *** فَجْعٌ وَوَلْعٌ وأخلافٌ وتَبْديلُ

وأنشد أيضاً :

ومَنْ رَاْ مثلَ مَعْدانَ بِن سعدٍ *** إذا ما النِّسْعُ طال على المَطِيَّةْ

أي : ومن رأى

ومنها : أنه لا يدخلها تعليقٌ ولا إلغاء لأنها بمعنى أخبرني ، و " أخبرني " لا يُعَلَّقُ عند الجمهور . قال سيبويه : " وتقول : أَرَأَيْتَك زيداً أو مَنْ هو ؟ لا يَحْسُنُ فيه إلا النصبُ في " زيد " ألا ترى أنك لو قلت : " أرأيت أو مَنْ انت ؟ " لم يحسن ، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد ، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني " وقد خالف سيبويه غيرَه من النحويين وقالوا : كثيراً ما تُعَلَّق " أرأيت " وفي القرآن من ذلك كثيرٌ ، واستدلُّوا بهذه الآيةِ التي نحن فيها ، وبقوله : { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم } [ العلق : 1314 ] ، وبقوله : أرَيْتَ ما جاءَتْ به أملودا

وهذا لا يَرِد على سيبويه ، وسيأتي تأويل ذلك قريباً .

ومنها : أنها تَلْحَقُها التاءُ فَيُلْتَزَمُ إفرادها وتذكيرها ويستغنى عن لحاق علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف بخلاف التي لم تُضَمَّن معنى " أخبرني " فإنها تطابق فيها - كما تقدَّم - ما يُراد بها .

ومنها : أنه يَلْحَقُها كافٌ هي حرفُ خطاب تطابق ما يُراد بها من إفراد وتذكير وضدَّيهما . وهل هذه التاء فاعل والكاف حرف خطاب تُبَيِّن أحوالَ التاء ، كما تُبَيِّنه إذا كانت ضميراً ، أو التاء حرف خطاب والكاف هي الفاعل ، واستعير ضميرُ النصبِ في مكان ضمير الرفع ، أو التاءُ فاعلٌ أيضاً ، والكاف ضمير في مضوع المفعول الأول ؟ ثلاثة مذاهبَ مشهورة ، الأولُ قولُ البصريِّين ، والثاني قول الفراء ، والثالثُ قولُ الكسائي .

ولنقتصر على بعضِ أدلةِ كلِّ فريق .

قال أبو علي : " قولهم " : " أَرَأَيْتَكَ زيداً ما فعل " بفتح التاء في جميع الأحوال ، فالكافُ لا يَخْلو أن يكون للخطاب مجرداً ، ومعنى الاسميةِ مخلوعٌ منه ، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالته على الخطاب ، ولو كان اسماً لوجبَ أن يكونَ الاسمُ الذي بعده هو هو ، لأن هذه الأفعالَ مفعولُها الثاني هو الأول في المعنى ، لكنه ليس به ، فتعيَّنَ أن يكون مخلوعاً منه الاسميةُ ، وإذا ثبت أنه للخطاب مُعرَّى من الاسمية ثبت أن التاء لا تكون لمجرَّد الخطاب . ألا ترى أنه ينبغي أن يَلْحق الكلمةَ علامتا خطاب ، كما لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام ، فلمَّا لم يَجُز ذلك أُفْرِدَت التاء في جميع الأحوال لَمَّا كان الفعل لا بد له من فاعل ، وجُعِل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناءً بما يلحق الكاف ، ولو لحق التاءَ علامةُ الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء ، وممَّا كان يلحق الكاف ، فلما كان ذلك يؤدِّي إلى ما لا نظيرَ له رُفِضَ وأُجْري على ما عليه سائر كلامهم " .

وقال الزجاج عبد حكايته مذهبَ الفراء : " وهذا القول لم يَقْبله النحويون القدماء وهو خطأٌ ؛ لأنَّ قولَك : " أرأيتك زيداً ما شأنه " لو تَعَدَّت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى : أَرَأَتْ نَفْسُك زيداً ما شأنُه ، وهذا مُحالٌ " ثم ذكر مذهبَ البصريين . وقال مكي بن أبي طالب بعد حكايته مذهبَ الفراء : " وهذا مُحالٌ ؛ لأنَّ التاءَ هي الكاف في أرأيتكم ، فكان يجب أن تَظْهر علامةُ جمع التاء ، وكان يجب أن يكون فاعلاً لفعلٍ واحد وهما لشيء واحد ، ويجب أن يكون معنى قولك أرأيتَك زيداً ما صنع : أرأيْتَ نفسَك زيداً ما صنع ، لأن الكاف هو المخاطب ، وهذا مُحَالٌ في المعنى ومتناقض في الإِعراب والمعنى ، لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال ، ثم تَرُدُّ السؤالَ إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً ، ثم تأتي بغائب آخر ، أو لأنه يصير ثلاثة مفعولين لرأيت ، وهذا كلُّه لا يجوزُ ، ولو قلت : " أرأيتك عالماً بزيد " لكان كلاماً صحيحاً وقد تعدَّى " رأى " إلى مفعولين " .

وقال ابو البقاء بعدما حكى مذهب البصريين : " والدليل على ذلك أنها - أي الكاف - لو كانت اسماً لكانت : إمَّا مجرورةً - وهو باطل ، إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مرفوعةً ، وهو باطلٌ أيضاً لأمرين ، أحدهما : أن الكافَ ليسَتْ من ضمائرِ الرفع ، والثاني : أنها لا رافعَ لها ، إذ ليست فاعلاً لأن التاء فاعل ، ولا يكون لفعلٍ واحد فاعلان ، وإمَّا أن تكون منصوبةً وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه ، أحدُها : أن هذا الفعلَ يتعدَّى إلى مفعولين كقولك : " أرأيت زيداً ما فعلَ " فلو جُعِلَت الكافُ مفعولاً لكان ثالثاً .

والثاني : أنه لو كان مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى ، وليس المعنى على ذلك ، إذ ليس الغرضُ أرأيت نفسك ، بل أرأيت غيرك . ولذلك قلت : أرأيت زيداً ، وزيداً غير المخاطب ولا هو بدل منه . والثالث : أنه لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرَتْ علامةُ التثنية والجمعِ والتأنيث في التاء فكنت تقول : أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنَّ " ثم ذكر مذهبَ الفراء ثم قال : " وفيما ذَكَرْنا إبطالٌ لمذهبه " .

وقد انتصر أبو بكر بن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال : " لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع بالتاء ، كما يقعان بها عند عدم الكاف ، فلمَّا فُتِحت التاءُ في خطاب الجمع ووقع مِيْسَم الجمع لغيرها كان ذلك دليلاً على أن الكافَ غيرُ توكيد . ألا ترى أن الكاف لو سَقَطَت لم يَصْلُحْ أن يُقال لجماعة : أرأيت ، فوضح بهذا انصرافُ الفعلِ إلى الكاف وأنها واجبةٌ لازمةٌ مفتقر إليها " . وهذا الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقةِ لاسمِ الإِشارة ، فإنها يقع عليها مِيْسَمُ الجمعِ ، ومع ذلك هي حرف .

وقال الفراء : " موضعُ الكاف نصب ، وتأويلها رفع ؛ لأن الفعل يتحول عن التاء إليها ، وهي بمنزلة الكاف في " دونك " إذا أغري بها ، كما تقول : " دونكَ زيداً " فتجد الكاف في اللفظ خَفْضاً وفي المعنى رفعاً ، لأنها مأمورةٌ ، فكذلك هذه الكافُ موضعُها نصبٌ وتأويلها رفع " . قلت : وهذه الشبهةُ باطلةُ مما تقدم ، والخلاف في " دونك " و " إليك " وبابِهما مشهورٌ تقدَّم التنبيهُ عليه غيرَ مرة .

وقال الفراء أيضاً كلاماً حسناً رأيت أن أذكره فإنه مُبين نافع ، قال : " للعرب في " أرأيْتَ " لغتان ومعنيان ، أحدُهما رؤيةُ العين ، فإذا أردت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المخطاب ويتصرَّف تصرُّفَ سائرِ الأفعال ، تقول للرجل : " أرأيتك على غير هذه الحال " تريد : هل رأيتَ نفسَك ، ثم تثنِّي وتجمع فتقول : أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنَّ ، والمعنى الآخر : أن تقول " أرأيتك " وأنت تريد معنى أخبرني ، كقولك : أرأيتك إنْ فَعَلْتَ كذا ماذا تفعل أي : أخبرني ، وتترك التاء - إذا أردت هذا المعنى - موحدةً على كل حال تقول : أرأيتكما ، أرأيتكم ، أرأيتكنَّ ، وإنما تركَتِ العربُ التاءَ واحدةً ؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان ، وتركوا التاء على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعاً " ؟

قال : والرؤيةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المخاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل : ظنتُني وأريتُني ، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة ، لا يقولون للرجل : قتلتَك بمعنى : قتلتَ نفسَك ، ولا أحسنتَ إليك ، كما يقولون : متى تظنُّك خارجاً ؟ وذلك أنَّهم أرادوا الفصلَ بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعلِ الذي لا يجوزُ إلغاؤه ، ألا ترى أنك تقول : " أنا أظنُّ خارجٌ " فتلغي " أظن " وقال الله تعالى : { أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 7 ] ولم يَقُلْ : رأى نفسه . وقد جاء في ضرورة الشعر إجراءُ الأفعال التامة مُجْرى النواقص :

قال جران العود :

لقد كان لي عن ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني *** وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ

والعرب تقول : عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقَدْتُني وليس بوجه الكلام " انتهى .

واعلم أن الناس اختلفوا في الجملة الاستفهامية الواقعة بعد المنصوب بأرأيتك نحو : أرأيتك زيداً ما صنع ؟ فالجمهور على أن " زيداً " مفعول أول ، والجملة بعده في محصل نصب سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني . وقد تقدم أنه لا يجوز التعليق فيه هذه وإن جاز في غيرها من أخواتها نحو : علمت زيداً أبو مَنْ هو ؟ وقال ابن كَيْسان : " إن الجملة الاستفهامية في رأيتك زيداً ما صنع بدل من أرأيتك " وقال الأخفش : " إن لا بد بعد " أرأيت " التي بمعنى أخبرني من الاسم المستَخْبَرِ عنه ، ويلزمُ الجملةَ التي بعده الاستفهامُ لأن " أخبرني " موافق لمعنى الاستفهام " وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها فتكون بمعنى " أما " أو " تنبَّه " ، وحينئذ لا يكون لها مفعولان ولا مفعول واحد ، وجعل من ذلك : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } [ الكهف : 63 ] . وهذا ينبغي أن لا يجوز لأنه إخراج للَّفْظَة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك .

إذا تقرَّر هذا فليُرْجع إلى الآية الكريمة فنقول وبالله التوفيق : اختلف الناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال ، أحدُها : أن المفعولَ الأولَ والجملةَ الاستفهامية التي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفان لفهم المعنى ، والتقدير : أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعُكم " أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهاً هل يَكْشِفُ ضُرَّكم ؟ ونحو ذلك : فعبادَتَكُمْ أو اتِّخاذَكم مفعول أول ، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مَسَدَّ الثاني : والتاء هي الفاعل ، والكاف حرف خطاب .

الثاني : أن الشرط وجوابه - سيأتي بيانه - قد سَدَّا مَسَدَّ المعفولين لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود ، فلم يَحْتج هذا الفعل إلى مفعولٍ ، وليس بشيء ؛ لأن الشرط وجوابه لم يُعْهد فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي ظن ، وكونُ الفعلِ غيرَ محتاجٍ لمفعولٍ إخراجٌ له عن وضعه ، فإنْ عَنَى بقوله : " سَدَّا مَسَدَّه " أنَّهما دالاَّن عليه فهو المدَّعى .

والثالث : أن المفعول الأول محذوفٌ ، والمسألةُ من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم ، والمتنازَعُ فيه هو لفظُ " العذاب " . وهذا اختيار الشيخ ، ولنوردْ كلامه ليظهرَ فإنَّه كلامٌ حسن قال : " فنقول : الذي نختاره : أنها باقية على حكمها في التعدِّي إلى اثنين ، فالأول منصوب والثاني لم نجده بالاستقراء إلا جلمة استفهامية أو قسمية .

فإذا تقرَّر هذا فنقول : المفعول الأول في هذه الآية محذوف ، والمسألة من باب التنازع ، تنازع " أرأيتكم " والشرط على " عذاب الله " ، فأعمل الثاني وهو " أتاكم " فارتفع " عذاب " به ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : " عذاب " بالنصب ، ونظير ذلك : " اضرب إنْ جاءك زيد " على إعمال " جاءك " ولو نصب لجاز ، وكان من إعمال الأول . وأمَّا المفعول الثاني فهو الجملة من الاستفهام : { أغيرَ الله تَدْعُون } والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول المحذوف محذوف تقديره : أغيرَ الله تَدْعُنن لكَشْفِه ، والمعنى : قل أرأيتكم عذابَ الله إنْ أتاكم - أو الساعة إن أتتكم - أغيرَ الله تَدْعُون لكشفه أو لكشف نوازلها " انتها . والتقدير الإِعرابيُّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح ، وتقديره : قل أرأيتَكموه أو أرأيتَكم إياه إن أتاكم عذاب الله ، فلذلك الضمير هو ضمير العذاب لمَّا عمل الثاني في ظاهره أُعطي المُلْغَى ضميرَه ، وإذا أُضْمِرَ في الأول حُذِف ما لم يكن مرفوعاً أو خبراً في الأصل ، وهذا الضمير ليس مرفوعاً ولا خبراً في الأصل ، فلأجل ذلك حُذِف ولا يَثْبُتُ إلا ضرورةً .

وأمَّا جوابُ الشرط ففيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشري : " إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون " قال الشيخ : " وإصلاحُه أن يقول : " فَمَنْ تدعون " بالفاء ، لأن جوابَ الشرطِ إذا وقع جملةً استفهاميةً فلا بد فيه من الفاء . الثاني : أنه " أرأيتكم " ، قاله الحوفي ، وهو فاسِدٌ لوجهين ، أحدهما : أن جوابَ الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين ، إنما جوَّزَه الكوفيون وأبو زيدٍ والمبردُ . والثاني : أن الجملةَ المصدَّرَةَ بالهمزة لا تقع جواباً للشرط البتة ، إنما يقع من الاستفهام ما كان ب " هل " أو اسمٍ من أسماء الاستفهام ، وإنما لم تقع الجملة المصدرة بالهمزة جوباً لأنه لا يخلو : أن تأتي معها بالفاء أو لا تأتي بها ، لا جائز أن لا تأتي بها ؛ لأنَّ كلَّ ما لا يَصْلح شرطاً يجب اقترانه بالفاء إذا وقع جواباً ، ولا جائز أن تأتي بها لأنك : إمَّا أن تأتي بها قبل الهمزة نحو : إن قمت فأزيد منطلق " ، أو بعدها نحو : " أفزيد منطلق " ، وكلاهما ممتنعٌ ، أمَّا الأول فلتصدُّر الفاء على الهمزة ، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجب فيه الإِتيانُ بها ، وهذا بخلاف " هل " فإنك تأتي بالفاء قبلها فتقول : إن قمت فهل زيد قائم ، لأنه ليس لها تامُ التصدير الذي تستحقُّه الهمزةُ ، ولذلك تَصَدَّرَتْ على بعضِ حروف العطف وقد تقدَّم مشروحاً غير مرة .

الثالث : أنه " أغير الله " وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال : " ويجوز أن يتعلَّق الشرطُ بقولِه : { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } كأنه قيل : أغير الله تَدْعُون إن أتاكم عذاب الله " قال الشيخ : " ولا يجوز أن يتعلَّق الشرط بقوله : " أغير الله " ؛ لأنه لو تعلَّق به لكان جواباً له ، لكنه لا يقع جواباً ؛ لأنَّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يقع إلا ب " هل " وذَكَر ما قدَّمْتُه إلى آخره ، وعزاه الأخفش عن العرب ثم قال : " ولا يجوز أيضاً من وجه آخر ، لأنَّا قد قَرَّرْنا أنَّ " أرأيتك " متعدِّية إلى اثنين ، أحدهما في هذه الاية محذوفٌ ، وأنه من باب التنازع ، والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعَة ، فلو جَعَلْتها جواب الشرط لبقيَتْ " أرأيتَكم " متعدية إلى واحد وذلك لا يجوز " قلت : وهذا لا يلزم الزمخشري فإنه لا يرتضى ما قاله من الإِعراب المشار إليه .

قوله " يلزم تعدِّيها لواحد " قلنا : لا نسلِّم بل يتعدَّى لاثنين محذوفين ثانيهما جملة استفهام ، كما قدَّره غيرُه : بأرأيتكم عبادتَكم هل تنفعكم ، ثم قال : " وأيضاً التزامُ العرب في الشرط الجائي بعد " أرأيت " مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أن جواب الشرط محذوف ، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلا عند مُضِيِّ فِعْلِه ، قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ } [ الأنعام : 47 ]

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ } [ الأنعام : 46 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ }

[ القصص : 71 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ } [ القصص : 72 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } [ يونس : 50 ] { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } [ الشعراء : 205 ] { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ العلق : 13 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقال الشاعر :

أَرَيْتَ إنْ جاءت به أمْلودا

وأيضاً مجيءُ الجملة الاستفهامية مُصَدَّرةً بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جوابَ الشرط ، إذ لا يَصحُّ وقوعُها جواباً للشرط " . انتهى .

ولما جَوَّزَ الزمخشري أن الشرطَ متعلِّقٌ بقوله : { أغير الله } سأل سؤالاً وأجابَ عنه ، قال : " فإنْ قلت : إنْ عَلَّقْتَ الشرطَ بِه فما تصنعُ بقوله : " فيكشِفُ ما تَدْعُون إليه " مع قوله : { أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ } وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين ؟ قلت : قد اشترط في الكشفِ المشيئةَ وهو قوله " إنْ شاء " إيذاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وجهٌ من الحكمة ، إلا أنه لا يَفْعلُ لوجهٍ آخرَ من الحكمةِ أرجحَ منه " قال الشيخ : " وهذا مبنيٌّ على أن الشرط متعلقٌ ب " أغير الله " . وقد استَدْلَلْنا على أنه لا يجوز " قلت : تَرَك الشيخُ التنبيهَ على ماهو أهمُّ من ذلك وهو قوله : " إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجحَ منه " وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحِكمٍ يترجَّح مع بعضها الفعلُ ومع بعضها التركُ ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك ، تعالى الله عن ذلك بل أفعاله لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض ، لا يُسأل عما يَفعل ، وموضوع هذه المسألةِ غيرُ هذا الموضوع ، ولكني نبَّهْتُك علهيا إجمالاً .

الرابع : أنَّ جواب الشرط محذوف تقديره : إن أتاكم عذابُ الله أو أَتَتْكم الساعةُ دَعَوْتم ، ودَلَّ عليه قوله : { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } الخامس : أنه محذوف أيضاً ، ولكنه مقدَّرٌ من جنس ما تقدَّم في المعنى ، تقديرُه : إنْ أتاكم عذاب الله أو أَتَتْكم الساعة فأخبروني عنه أَتَدْعُون غير الله لكشفِه كما تقول : " أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به " أي : إن جاءَك فأخبرني عنه ، فحُذِفَ الجوابُ لدلالة " أخبرني " عليه ، ونظيرُه : أنت ظالمُ إن فعلت ، أي : فأنت ظالم ، فحذف " فأنت ظالمٌ " لدلالةِ ما تقدَّم عليه . وهذا ما اختاره الشيخ . قال : " وهو جارٍ على قواعد العربية " وادَّعى أنه لم يَرَه لغيره .

قوله : { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } " غيرَ " مفعول مقدم ل " تَدْعون " وتقديمُه : إمَّا للاختصاص كما قال الزمشخري : " بَكَّتهم بقوله : أغير الله تَدْعُون ، بمعنى ، أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرٌّ أم تدعون اللَّهَ دونها ، وإمَّا للإِنكارِ عليهم في دعائهم للأصنام ؛ لأن المُنْكَرَ إنما هو دعاءُ الأصنامِ لا نفسُ الدعاء ، ألا ترى أنك إذا قلت " أزيداً تضربُ " إنما تُنْكِرُ كونَ " زيد " مَحَلاً للضرب ولا تُنْكر نفسَ الضرب ، وهذا من قاعدةٍ بيانية قَدَّمْتُ التنبيهَ عليها عند قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي } [ المائدة : 116 ] .

قوله : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } جوابُه محذوف لدلالة الكلام عليه وكذلك معمولُ " صادقين " والتقدير : إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ غيرَ الله إلهٌ فهل تَدْعُونه لكشْف ما يَحُلُّ بكم من العذاب ؟