{ 16-18 } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يأمر تعالى بتقواه ، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ويقيد{[1130]} ذلك بالاستطاعة والقدرة .
فهذه الآية ، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد ، أنه يسقط عنه ، وأنه إذا قدر على بعض المأمور ، وعجز عن بعضه ، فإنه يأتي بما يقدر عليه ، ويسقط عنه ما يعجز عنه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .
ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع ، ما لا يدخل تحت الحصر ، وقوله : { وَاسْمَعُوا } أي : اسمعوا ما يعظكم الله به ، وما يشرعه لكم من الأحكام ، واعلموا ذلك وانقادوا له { وَأَطِيعُوا } الله ورسوله في جميع أموركم ، { وَأَنْفِقُوا } من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة ، يكن ذلك الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والآخرة ، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى وقبول نصائحه ، والانقياد لشرعه ، والشر كله ، في مخالفة ذلك .
ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس ، من النفقة المأمور بها ، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس ، فإنها تشح بالمال ، وتحب وجوده ، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة .
فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها { فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } لأنهم أدركوا المطلوب ، ونجوا من المرهوب ، بل لعل ذلك ، شامل لكل ما أمر به العبد ، ونهي عنه ، فإنه إن كانت نفسه شحيحة . لا تنقاد لما أمرت به ، ولا تخرج ما قبلها ، لم يفلح ، بل خسر الدنيا والآخرة ، وإن كانت نفسه نفسًا سمحة ، مطمئنة ، منشرحة لشرع الله ، طالبة لمرضاة ، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به ، ووصول معرفته إليها ، والبصيرة بأنه مرض لله تعالى ، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز .
وقوله : فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ يقول تعالى ذكره : واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه ، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، والعمل بما يقرّب إليه ما أطقتم وبلَغه وسعكم .
وذُكر أن قوله : فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ نزل بعد قوله : اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ تخفيفا عن المسلمين ، وأن قول فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ ناسخ قوله : اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ واسمَعُوا وأطيعُوا هذه رخصة من الله ، والله رحيم بعباده ، وكان الله جلّ ثناؤه أنزل قبل ذلك : اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ وحقّ تقاته أن يُطاع فلا يعصى ، ثم خفّف الله تعالى ذكره عن عباده ، فأنزل الرخصة بعد ذلك فقال : فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا فبما استطعت يا ابن آدم ، عليها بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطعتم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ قال : نسختها : اتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ .
وقد تقدم بياننا عن معنى الناسخ والمنسوخ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع وليس في قوله : فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ دلالة واضحة على أنه لقوله : اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ ناسخ ، إذ كان محتملاً قوله : اتقوا الله حقّ تقاته فيما استطعتم ، ولم يكن بأنه له ناسخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان ذلك كذلك ، فالواجب استعمالهما جميعا على ما يحتملان من وجوه الصحة .
وقوله : واسمَعُوا وأطِيعُوا يقول : واسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه وَأَنْفِقُوا خَيْرا لأنْفُسِكُمْ يقول : وأنفقوا مالاً من أموالكم لأنفسكم تستنقذوها من عذاب الله ، والخير في هذا الموضع المال .
وقوله : وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ يقول تعالى ذكره : ومن يَقِه الله شحّ نفسه ، وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني أبو معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ يقول : هوى نفسه حيث يتبع هواه ولم يقبل الإيمان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جامع بن شدّاد ، عن الأسود بن هلال ، عن ابن مسعود وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ قال : أن يعمد إلى مال غيره فيأكله .
وقوله : فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ يقول : فهؤلاء الذين وُقُوا شح أنفسهم ، المُنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم .
قال قتادة وفريق من الناس : إن قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } ناسخ لقوله : { اتقوا الله حق تقاته }{[11145]} [ آل عمران : 102 ] ، وروي أن الأمر بحق التقاة نزل ، فشق ذلك على الناس حتى نزل : { ما استطعتم } ، وذهبت فرقة منهم أبو جعفر النحاس إلى أنه لا نسخ في الآيتين ، وأن قوله : { حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] مقصده «فيما استطعتم » ، ولا يعقل{[11146]} أن يطيع أحد فوق طاقته واستطاعته ، فهذه على هذا التأويل مبينة لتلك ، وتحتمل هذه الآية أن يكون : { فاتقوا الله } مدة استطاعتكم التقوى ، وتكون : { ما } ظرفاً للزمان كله كأنه يقول : حياتكم وما دام العمل ممكناً ، وقوله : { خيراً } ذهب بعض النحاة إلى أنه نصب على الحال وفي ذلك ضعف ، وذهب آخرون منهم إلى أنه نصب بقوله : { وأنفقوا } قالوا والخبر هنا : المال ، وذهب فريق منهم إلى أنه نعت لمصدر محذوف ، تقديره : إنفاقاً { خيراً } ، ومذهب سيبويه : أنه نصب بإضمار فعل يدل عليه { أنفقوا } .
وقرأ أبو حيوة : «يوَقّ » بفتح الواو وشد القاف ، وقرأ أبو عمرو «شِح » بكسر الشين ، وقد تقدم القول في { شح } النفس ما هو في سورة الحشر . وقال الحسن : نظرك لامرأة لا تملكها شح ، وقيل : يا رسول الله : ما يدخل العبد النار ؟ قال : «شح مطاع ، وهوى متبع ، وجبن هالع ، وإعجاب المرء بنفسه ) ، ذكره النقاش{[11147]} ، والحديث في المصنفات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخويصة نفسك »{[11148]} .
فاء فصيحة وتفريع على ما تقدم ، أي إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارِف في الأموال فلا يصدّكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات ، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حدّ العدل المأمور به ، ولا حُبُّ المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال . فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك .
وحذف متعلق ( اتقوا ) لقصد تعميم ما يتعلق بالتقوى من جميع الأحوال المذكورة وغيرها وبذلك يكون هذا الكلام كالتذييل لأن مضمونه أعم من مضمون ما قبله .
ولما كانت التقوى في شأن المذكورات وغيرها قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصاً على إرضاء شهوة النفس في كثير من أحوال تلك الأشياء زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله : { ما استطعتم } .
و { مَا } مصدرية ظرفية ، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعاً لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات ، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان . وجعلت الأزمان ظرفاً للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة قال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] .
فليس في قوله : { ما استطعتم } تخفيف ولا تشديد ولكنه عَدل وإنصافٌ . ففيه ما عليهم وفيه ما لهم .
روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال : « بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقَّنني : « فيما استطعت » ، وعن ابن عمر : كنّا إذا بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا « فيما استطعتُ » .
وعطفُ { واسمعوا وأطيعوا } على ( اتقوا الله ) من عطف الخاص على العام للاهتمام به ، ولأن التقوى تتبادر في ترك المنهيات فإنها مشتقة من وقَى . فتقوى الله أن يقي المرء نفسه مما نهاه الله عنه ، ولما كان ترك المأمورات فيؤول إلى إتيان المنهيات ، لأن ترك الأمر منهي عنه إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده . كان التصريح به بخصوصه اهتماماً بكلا الأمرين لتحصل حقيقة التقوى الشرعية وهي اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات .
والمراد : اسمعوا الله ، أي أطيعوه بالسمع للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته .
والأمر بالسمع أمر يتلقَّى الشريعة والإِقبال على سماع مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم وذلك وسيلة التقوى قال تعالى : { فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 17 ، 18 ] .
وعطف عليه { وأطيعوا } : أي أطيعوا ما سمعتم من أمر ونهي .
وعَطْف { وأنفقوا } تخصيصٌ بعد تخصيص فإن الإنفاق مما أمر الله به فهو من المأمورات .
وصيغة الأمر تشتمل واجب الإِنفاق والمندوبَ ففيه التحريض على الإِنفاق بمرتبتيه وهذا من الاهتمام بالنزاهة عن فتنة المال التي ذكرت في قوله : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } [ التغابن : 15 ] .
وانتصب { خيراً } على الصفة لمصدرٍ محذوف دل عليه { أنفقوا } . والتقدير : إنفاقاً خيراً لأنفسكم . هذا قول الكسائي والفرّاء فيكون { خيراً } اسم تفضيل . وأصله : أَخْير ، وهو محذوف الهمزة لكثرة الاستعمال ، أي الإِنفاق خير لكم من الإِمساك . وعن سيبويه أنه منصوب على أنه مفعول به لفعل مضمر دل عليه { أنفقوا } . والتقدير : ائتوا خيراً لأنفسكم . وجملة { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } تذييل .
و { مَن } اسم شرط وهي من صيغ العموم : أي كل من يوق شحّ نفسه والعموم يدل على أن { من } مراد بها جنس لا شخص معين ولا طائفة ، وهذا حب اقتضاه حرص أكثر الناس على حفظ المال وادخاره والإِقلاللِ من نفع الغير به وذلك الحرص يسمى الشح .
والمعنى : أن الإِنفاق يقي صاحبه من الشحّ المنهي عنه فإذا يُسر على المرء الإِنفاق فيما أمر الله به فقد وُقي شُحّ نفسه وذلك من الفلاح .
ولما كان ذلك فلاحاً عظيماً جيء في جانبه بصيغة الحصر بطريقة تعريف المسند ، وهو قصر جنس المفلحين على جنس الذين وُقُوا شحّ أنفسهم ، وهو قصر ادعائي للمبالغة في تحقق وصف المفلحين الذين وقُوا شحّ أنفسهم نزّل الآن فلاح غيرهم بمنزلة العدم .
وإضافة { شح } إلى النفس للإِشارة إلى أن الشح من طباع النفس فإن النفوس شحيحة بالأشياء المحببة إليها قال تعالى : { وأحضرت الأنفس الشحّ } [ النساء : 128 ] .
وفي الحديث لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة قال : « أن تَصدَّق وأنت صحيح شَحِيح تخشى الفقر وَتَأَمُل الغنى . وأنْ لا تَدعَ حتى إذا بلغت الحلقومَ قلتَ لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان » وتقدم نظيره { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } في سورة [ الحشر : 9 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاتقوا الله} في أمره ونهيه {ما استطعتم} يعني ما أطعتم {واسمعوا} له مواعظه {وأطيعوا} أمره {وأنفقوا} من أموالكم في حق الله {خيرا لأنفسكم}.
ثم رغبهم في النفقة، فقال: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} آية أي يعطى حق الله من ماله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ "يقول تعالى ذكره: واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يقرّب إليه ما أطقتم وبلَغه وسعكم.
وذُكر أن قوله: "فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ" نزل بعد قوله: "اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ" تخفيفا عن المسلمين، وأن قول "فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ" ناسخ قوله: "اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ"...
وقد تقدم بياننا عن معنى الناسخ والمنسوخ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وليس في قوله: "فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ" دلالة واضحة على أنه لقوله: "اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ" ناسخ، إذ كان محتملاً قوله: "اتقوا الله حقّ تقاته" فيما استطعتم، ولم يكن بأنه له ناسخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان ذلك كذلك، فالواجب استعمالهما جميعا على ما يحتملان من وجوه الصحة.
وقوله: "واسمَعُوا وأطِيعُوا" يقول: واسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه "وَأَنْفِقُوا خَيْرا لأنْفُسِكُمْ" يقول: وأنفقوا مالاً من أموالكم لأنفسكم تستنقذوها من عذاب الله، والخير في هذا الموضع المال.
وقوله: "وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ" يقول تعالى ذكره: ومن يَقِه الله شحّ نفسه، وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه...
وقوله: "فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ" يقول: فهؤلاء الذين وُقُوا شح أنفسهم، المُنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {ومن يوق شح نفسه}...ومن يوق ظلم نفسه، والشح: الظلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...الاتقاء: الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو اليه الهوى... (ومن يوق شح نفسه) أي من منع ووقى شح نفسه. والشح: منع الواجب في الشرع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فاتقوا الله} مظهراً غير مضمر تعظيماً للمقام واحترازاً من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار أن المعنى: اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما، باجتناب نواهيه بعد امتثال أوامره...
. {ما استطعتم} أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين...
{واسمعوا} أي سماع إذعان وتسليم لما توعظون به ولجميع أوامره {وأطيعوا} أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة...
{وأنفقوا} أي أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها على عداوة، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي...
{خيراً} أي يكن ذلك أعظم خير واقع {لأنفسكم} فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا ما يزكي به النفس، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه...
{ومن يوق} بناه للمفعول تعظيماً للترغيب فيه نفسه مع قطع الناضر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان -وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال: {شح نفسه} فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرز عن رق المكونات، والشح: خلق باطن هو الداء العضال...
{فأولئك} أي العالو الرتبة {هم} أي خاصة {المفلحون} أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فاء فصيحة وتفريع على ما تقدم، أي إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارِف في الأموال فلا يصدّكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حدّ العدل المأمور به، ولا حُبُّ المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال. فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك. والخطاب للمؤمنين...
ولما كانت التقوى في شأن المذكورات وغيرها قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصاً على إرضاء شهوة النفس في كثير من أحوال تلك الأشياء زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله: {ما استطعتم}. و {مَا} مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعاً لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان. وجعلت الأزمان ظرفاً للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. فليس في قوله: {ما استطعتم} تخفيف ولا تشديد ولكنه عَدل وإنصافٌ. ففيه ما عليهم وفيه ما لهم...
وعطفُ {واسمعوا وأطيعوا} على (اتقوا الله) من عطف الخاص على العام للاهتمام به...
والمراد: اسمعوا الله، أي أطيعوه بالسمع للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته...
.وجملة {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تذييل...
والمعنى: أن الإِنفاق يقي صاحبه من الشحّ المنهي عنه...
.ولما كان ذلك فلاحاً عظيماً جيء في جانبه بصيغة الحصر بطريقة تعريف المسند، وهو قصر جنس المفلحين على جنس الذين وُقُوا شحّ أنفسهم...