اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (16)

قوله : { فاتقوا الله مَا استطعتم } .

قال قتادة ، والربيع بن أنس ، والسُّدي ، وابن زيد : هذه الآية ناسخة لقوله { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ }[ آل عمران : 102 ] .

ذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } قال : جاء أمر شديد ، قال : ومن يعرف هذا ويبلغه ، فلما عرف الله أنه اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم ، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال : { فاتقوا الله مَا استطعتم }{[56932]} .

وقال ابن عباس : هي محكمة لا نسخ فيها ، ولكن حق تقاته أن تجاهد لله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم{[56933]} .

فإن قيل : إذا كانت الآية غير منسوخة ، فكيف الجمع بين الآيتين ، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص ، ولا مشروط بشرط ، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة ؟ .

فالجواب{[56934]} : أن قوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } معناه فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون ، وذلك أن الله - تعالى - قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها ، لقوله تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } إلى قوله : { فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } [ النساء : 97 ] ، فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلاً بالإقامة في دار الشرك ، فكذلك معنى قوله : { مَا استطعتم } في الهجرة من دار الشِّرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم .

ويدل على صحة هذا أن قوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } عقيب قوله : { يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } ، ولا خلاف بين علماء التأويل أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كانوا تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم ، وهذا اختيار الطبري{[56935]} .

وقال ابن جبير : قوله : { فاتقوا الله مَا استطعتم } فيما تطوع به من نافلة أو صدقة ، فإنه لما نزل قوله تعالى : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ }[ آل عمران : 102 ] اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرَّحت جباهُهُمْ ، فأنزل الله تخفيفاً عنهم : { فاتقوا الله مَا استطعتم } فنسخت الأولى .

قال الماوردي{[56936]} : ويحتمل أن يثبت هذا النَّقْل ، لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها ، لأنه لا يستطيع اتقاءها .

قوله : { واسمعوا وَأَطِيعُواْ } .

أي : اسمعوا ما توعظون به ، وأطيعوا ما تؤمرون به ، وتنهون عنه .

وقال مقاتل : «اسْمَعُوا » أي : أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله ، وهو الأصل في السَّماع «وأطِيعُوا » الرسول فيما يأمركم أو ينهاكم .

وقيل : معنى «واسْمَعُوا » أي : اقبلوا ما تسمعون وعبر عنه بالسماع ؛ لأنه فائدته .

قوله : { وَأَنْفِقُواْ } .

قال ابن عباس : هي الزكاة{[56937]} .

وقيل : هي النفقة في النفل .

وقال الضحاك : هي النفقة في الجهاد{[56938]} .

وقال الحسن : هي نفقة الرجل لنفسه{[56939]} .

وقال ابن العربي{[56940]} : وإنما أوقع قائل هذا ، قوله : «لأنفُسِكُمْ » وخفي عليه قوله : إن نفقة الفرض والنَّفْل في الصَّدقة على نفسه ، قال الله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }[ الإسراء : 7 ] . فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه ، والصحيح أنها عامة .

قوله : { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } .

في نصبه أوجه{[56941]} :

أحدها : قال سيبويه : إنه مفعول بفعل مقدر ، دلَّ عليه «وأنفقوا » ، تقديره : ايتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم وقدموا لأنفسكم كقوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } .

الثاني : تقديره : يكن الإنفاق خيراً ، فهو خبر كان المضمرة ، وهو قول أبي عبيدة .

الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، وهو قول الكسائي والفراء ، أي : إنفاقاً خيراً .

الرابع : أنه حال ، وهو قول الكوفيين .

الخامس : أنه مفعول بقوله «أنفِقُوا » ، أي : أنفقوا مالاً خيراً .

قوله : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } .

تقدم نظيره .


[56932]:تقدم تخريجه في سورة آل عمران.
[56933]:تقدم.
[56934]:ينظر: القرطبي 18/95-96.
[56935]:ينظر: جامع البيان 12/117.
[56936]:ينظر: النكت والعيون 6/26.
[56937]:ذكره القرطبي في "تفسيره"(18/96).
[56938]:ينظر: المصدر السابق.
[56939]:ينظر: المصدر السابق.
[56940]:ينظر: أحكام القرآن 4/1822.
[56941]:ينظر: الدر المصون 6/326، 327.