تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (16)

الآية 16 وقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } قال بعضهم : نسخت هذه الآية قوله تعالى : { اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] حين{[21388]} أمر ههنا بالاتقاء على قدر الاستطاعة ، وثم بخلافه .

ولكن هذا لا يستقيم لأن قوله تعالى : { اتقوا الله حق تقاته } لا يراد به الاتقاء في ما لا يستطيعون لا فوق الطاقة والاستطاعة . لكنه إن كان [ فوجهه أن ]{[21389]} { اتقوا الله حق تقاته } وإن هلكت فيه طاقتكم ، لأنه أمرهم بتقوى ، تهلك بها{[21390]} طاقتهم على ما قال : { ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم } [ النساء : 66 ] ولو كتب عليهم أن يقتلوا أنفسهم جاز ، ولكنه [ أمر أن ]{[21391]} تهلك طاقتهم فيه . فكذلك الأول . ثم قال : { فاتقوا الله ما استطعتم } تخفيفا عليهم وتيسيرا ، والله أعلم .

ولكن الكلام في أن كيف قال : { فاتقوا الله ما استطعتم } ولم يكن يتقى لولا هذه الآية إلا ما يستطاع{[21392]} .

ولكن معناه ، والله أعلم ، على جهة البشارة أنكم إذا قصدتم قصد التقوى آتاكم الله الاستطاعة في تقواه ، وهو كقوله تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] وقوله تعالى : { فأما من أعطى واتقى } { وصدّق بالحسنى } { فسنيسره لليسرى } [ الليل / 5 و6 و7 ] .

وهذه الآية على المعتزلة ، لأنهم يقولون : إن الاستطاعة تتقدم الفعل ، وهي تزول عن الفاعل ، وتتقدم على الفعل . ولو كان كذلك كان يجعل قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } استطاعة ، زالت عنهم ، وكذلك قوله ، جل ثناؤه : { فخذها بقوة } [ الأراف : 145 ] وكذلك قوله تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة } [ البقرة : 63 و . . . ] زالت عنهم . وهذا{[21393]} مستحيل .

والذي يؤيد قولنا قوله ، جل ثناؤه : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } [ المجادلة : 4 ] والحاجة إلى هذه الاستطاعة تقع عند أداء البدل عن الأصل .

فأما قيل ذلك ، إن كان مستطيعا أو غير مستطيع ، فهو سواء : قوله تعالى : { واسمعوا } أي{[21394]} اسمعوا إلى ما أمركم الله تعالى به ورسوله ، و{[21395]} قوله تعالى : { وأطيعوا } بمعنى أجيبوا لما أمركم الله تعالى به وإلى ما دعاكم الله ورسوله لقوله صلى الله عليه وسلم {[21396]} : ( سمع الله لمن حمده )[ أبوداوود1180 ] أي أجابه .

وقوله تعالى : { وأنفقوا خيرا لأنفسكم } أي وأنفقوا مما رزقتم [ يكن ]{[21397]} خيرا لكم من أن تدعوا للإجابة لما أمركم ، والإنفاق مما رزقكم .

وقوله تعالى : { ومن يوق شح نفسه } قال سفيان بن عيينة : أي ومن يوق ظلم نفسه ، والشح : الظلم ؛ أضاف الوقاية إلى نفسه ليعلم أن من اتقاه فإنما اتقاه بما وقاه الله تعالى بلطفه وكرمه .

ألا ترى إلى [ قوله تعالى ]{[21398]} : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا } ؟ [ التحريم : 6 ] كيف علمهم ذلك التقوى بقوله : { وقنا عذاب النار } [ البقرة : 201 و . . . ] ليعلم أن جميع أفعال العباد إنما تقوم ، وتصح بتدبير الله تعالى وتوفيقه وتسديده وتقديره ، والله أعلم .

ثم قوله تعالى : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } فيه أوجه من الدلالة :

أحدها : أن قوله تعالى : { ومن يوق شح نفسه } لم يبين فاعله ، ففيه بيان أن في سلطان الله وملكه ما يقي به شح عبده ، وأنه إذا وقاه شح نفسه أفلح . وكذلك في قوله تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } [ آل عمران : 160 ] إخبار أن من ينصره الله فلا يغلب .

وقد يرى في الشاهد من لا يوقى شح نفسه البتة ، ومن قد يوقى شح نفسه ، ولا يفلح ، ويرى من يجاهد أعداءه ، فيغلب مع ما وعده ، وأخبره{[21399]} أنه هو الغالب وأنه لا يغلب ؛ فلا بد[ في ]{[21400]} ذلك من أحد وجوه{[21401]} :

إما أن لم يكن لله تعالى النصرة في ملكه وسلطانه كما ادعى فهو كاذب في ما ادعى .

وإما أن آتاه من القوة ما يقي به شح نفسه ، فلم يفلح ، فصار كاذبا في خبره .

وإما أن كانت المعتزلة في ما زعموا أن الله تعالى ، قد آتى عبده جميع ما يقي به شح نفسه حتى لم يبق في خزائنه شيء ، يؤتيه ليبقى به شح نفسه ، كذبة .

وإذا لم يكن بد من نسبة الكذب إلى الله تعالى أو إلى المعتزلة كانت المعتزلة أولى أن ينسبوا إلى الكذب من رب العالمين في ما أخبروا ، وإن{[21402]} الله تعالى في ما أخبر صادق ، وإن{[21403]} في ملكه وسلطانه ما لم يؤت عبده ليقي به شح نفسه ، والله المستعان .

[ والثاني ]{[21404]} : دلالة على إبطال قول من قال : إن على الكفرة أداء هذه العبادات والحقوق واجبة ؛ وذلك أن الله تعالى وعد{[21405]} في هذه الآية أن من وقي شح نفسه ، وأدى ما وجب عليه من هذه الحقوق ، فقد أفلح .

وقد نرى الكافر في الشاهد يوقى شح نفسه ، ويؤدي حقوق أمواله ، ويسخو بماله على الناس ، ولا يفلح ، ولو كان [ يرى أن ]{[21406]} عليه هذه الحقوق واجبة لكان يحصل له الفلاح .

فثبت أنه ليس عليه أداؤها ، وإنما عليه قبولها ، والله أعلم .

[ والثالث : دلالة ]{[21407]} أن صاحب الكبيرة ، قد يرجى له الفلاح ، وإن لم يتب على الكبيرة [ حتى ]{[21408]} مات ، لأنا قد نرى صاحب الكبيرة قد يوقى شح نفسه ، وقد وعد الله عز وجل أن من يوق شح نفسه فهو من المفلحين / 574- أ/ فإذا كان صاحب الكبيرة قد يوقى شح نفسه ، فقد ثبت أنه يرجى [ له ]{[21409]} الفلاح .


[21388]:في الأصل وم: حيث
[21389]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: فوجهان
[21390]:في الأصل وم: به
[21391]:ساقطة من الأصل وم
[21392]:في الأصل: استطعنا
[21393]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[21394]:من م، في الأصل إذ
[21395]:في الأصل وم: أو يكون
[21396]:ساقطة من الأصل وم
[21397]:ساقطة من الأصل وم
[21398]:ساقطة من الأصل وم
[21399]:في الأصل وم: وأخبر
[21400]:ساقطة من الأصل وم
[21401]:في الأصل وم: وجهين
[21402]:الواوساقطة من الأصل وم
[21403]:الواوساقطة من الأصل وم
[21404]:في الأصل وم: وفيه
[21405]:في الأصل وم: أوعد
[21406]:ساقطة من الأصل وم
[21407]:في الأصل وم: وفيه
[21408]:من م ساقطة من الأصل
[21409]:من م ساقطة من الأصل