ولهذا قال { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : خالقهما ومدبرهما . { عَالِمَ الْغَيْبِ } الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا { وَالشَّهَادَةِ } الذي نشاهده .
{ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وإن من أعظم الاختلاف اختلاف الموحدين المخلصين القائلين : إن ما هم عليه هو الحق ، وإن لهم الحسنى في الآخرة دون غيرهم ، والمشركين الذين اتخذوا من دونك الأنداد والأوثان ، وسووا فيك من لا يسوى شيئا ، وتنقصوك غاية التنقص ، واستبشروا عند ذكر آلهتهم ، واشمأزوا عند ذكرك ، وزعموا مع هذا أنهم على الحق وغيرهم على الباطل ، وأن لهم الحسنى .
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
وقد أخبرنا بالفصل بينهم بعدها بقوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } إلى أن قال : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
وقال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } ففي هذه الآية ، بيان عموم خلقه تعالى وعموم علمه ، وعموم حكمه بين عباده ، . فقدرته التي نشأت عنها المخلوقات ، وعلمه المحيط بكل شيء ، دال على حكمه بين عباده وبعثهم ، وعلمه بأعمالهم ، خيرها وشرها ، وبمقادير جزائها ، وخلقه دال على علمه { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ اللّهُمّ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد ، الله خالق السموات والأرض عالمَ الغَيْبِ والشّهادَةِ الذي لا تراه الأبصار ، ولا تحسه العيون والشهادة الذي تشهده أبصار خلقه ، وتراه أعينهم أنْتَ تَحْكُمُ بينَ عِبادِكَ فتفصل بينهم بالحقّ يوم تجمعهم لفصل القضاء بينهم فيما كانُوا فِيهِ في الدنيا يَخْتَلِفُونَ من القول فيك ، وفي عظمتك وسلطانك ، وغير ذلك من اختلافهم بينهم ، فتقضي يومئذ بيننا وبين هؤلاء المشركين الذين إذا ذكرت وحدك اشمأزّت قلوبهم ، وإذا ذكر مَنْ دونك استبشروا بالحقّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ فاطر : قال خالق . وفي قوله عالِمَ الغَيْبِ قال : ما غاب عن العباد فهو يعلمه ، وَالشّهادَةِ : ما عرف العباد وشهدوا ، فهو يعلمه .
لما كان أكثر ما تقدم من السورة مشعراً بالاختلاف بين المشركين والمؤمنين ، وبأن المشركين مصممون على باطلهم على ما غمرهم من حجج الحق دون إغناء الآيات والتدبر عنهم أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بأن يقول هذا القول تنفيساً عنه من كدر الأسى على قومه ، وإعذاراً لهم بالنذارة ، وإشعاراً لهم بأن الحق في جانبهم مضاع ، وأن الأجدر بالرسول صلى الله عليه وسلم متاركتهم وأن يفوّض الحكم في خلافهم إلى الله . وفي هذا التفويض إشارة إلى أن الذي فوّض أمره إلى الله هو الواثق بحقّيه دينه المطمئن بأن التحكيم يُظهر حقه وباطل خصمه .
وابتدىء خطابُ الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّه بالنداء لأن المقام مقام توجيه وتحاكم . وإجراء الوصفين على اسم الجلالة لما فيهما من المناسبة بخضوع الخلق كلهم لحكمه وشمول علمه لدخائلهم من مُحقّ ومُبطل .
وَالفاطر : الخالق ، وفاطر السماوات والأرض فاطر لما تحتوي عليه . ووصف { فاطِرَ السموات والأرض } مشعر بصفة القدرة ، وتقديمُه قبل وصف العِلم لأن شعور الناس بقدرته سابق على شعورهم بعلمه ، ولأن القدرة أشدّ مناسبة لطلب الحكم لأن الحكم إلزام وقهر فهو من آثار القدرة مباشرةً .
والغيب : ما خفي وغاب عن علم الناس ، والشهادة : ما يَعلمه الناس مما يدخل تحت الإِحساس الذي هو أصل العلوم .
والعدول عن الإِضمار إلى الاسم الظاهر في قوله : { بَيْنَ عبادِكَ } دون أن يقول : بيننا ، لما في { عِبَادِك } من العموم لأنه جمع مضاف فيشمل الحكم بينهم في قضيتهم هذه والحكمَ بين كل مختلِفين لأن التعميم أنسب بالدعاء والمباهلة .
وجملة { أنت تحكم بين عبادك } خبر مستعمل في الدعاء . والمعنى : احكم بيننا . وفي تلقين هذا الدعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه الفاعل الحق . وتقديم المسند إليه على الخبر الفِعْلي في قوله : { أنت تحكم } لإِفادة الاختصاص ، أي أنت لا غيرك . وإذ لم يكن في الفريقين من يعتقد أن غير الله يحكم بين الناس في مثل هذا الاختلاف فيكونَ الرد عليه بمفاد القصر ، تعين أن القصر مستعمل كناية تلويحية عن شدة شكيمتهم في العناد وعدم الإِنصاف والانصياع إلى قواطع الحجج ، بحيث إن من يتطلب حاكماً فيهم لا يجد حاكماً فيهم إلا الله تعالى . وهذا أيضاً يؤمىء إلى العذر للرسول صلى الله عليه وسلم في قيامه بأقصى ما كُلّف به لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وُسعه فيما وجب عليه ، فلما لَقَّنه ربه أن يقوله كان ذلك في معنى : أنك أبلغتَ وأديتَ الرسالة فلم يبق إلا ما يدخل تحت قدرة الله تعالى التي لا يعجزها الألدَّاء أمثال قومك ، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وعيد للمعاندين .
والحكم يصدق بحكم الآخرة وهو المحقق الذي لا يخلف ، ويشمل حكم الدنيا بنصر المحق على المبطل إذا شاء الله أن يعجل بعض حكمه بأن يُعجل لهم العذاب في الدنيا .
والإِتيان بفعل الكون صلة ل { مَا } الموصولة ليدُل على تحقق الاختلاف ، وكونُ خبر ( كان ) مضارعاً تعريض بأنه اختلاف متجدد إذ لا طماعية في ارعواء المشركين عن باطلهم .
وتقديم { فِيهِ } على { يَخْتلفون } للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلَف فيه .