{ 39-44 } { إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا }
أي : قال للكافر صاحبه المؤمن : أنت -وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك ، ورأيتني أقل منك مالا وولدا -فإن ما عند الله ، خير وأبقى ، وما يرجى من خيره وإحسانه ، أفضل من جميع الدنيا ، التي يتنافس فيها المتنافسون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } .
يقول عزّ ذكره : وهلا إذ دخلت بستانك ، فأعجبك ما رأيت منه ، قلت ما شاء الله كان وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر عليه منه ، وهو جواب الجزاء ، وذلك كان .
وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى الذي قلنا كانت «ما » نصبا بوقوع فعل الله عليه ، وهو شاء وجاز طرح الجواب ، لأن معنى الكلام معروف ، كما قيل : فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ، وترك الجواب ، إذ كان مفهوما معناه . وكان بعض أهل العربية يقول «ما » من قوله : ما شاءَ اللّهُ في موضع رفع بإضمار هو ، كأنه قيل : قلت هو ما شاء الله لا قُوّةَ إلاّ باللّهِ يقول : لا قوّة على ما نحاول من طاعته إلا به . وقوله : إنْ تَرَنِ أنا أقَلّ مِنْكَ مالاً وَوَلَدا وهو قول المؤمن الذي لا مال له ، ولا عشيرة ، مثل صاحب الجنتين وعشيرته ، وهو مثل سَلْمان وصُهَيب وَخباب ، يقول : قال المؤمن للكافر : إن ترن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالاً وولدا فإذا جعلت أنا عمادا نصبت أقل ، وبه القراءة عندنا ، لأن عليه قراءة الأمصار ، وإذا جعلته اسما رفعت أقل .
{ ولولا إذ دخلت جنّتك قلت } وهلا قلت عند دخولها . { ما شاء الله } الأمر ما شاء أو ما شاء كائن على أن ما موصولة ، أو أي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف إقرارا بأنها وما فيها بمشيئة الله إن شاء أبقاها وإن شاء أبداها . { لا قوة إلا بالله } وقلت لا قوة إلا بالله اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله ، وإن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها بمعونته وإقداره . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره " . { إن ترنِ أنا أقلّ منك مالا وولدا } يحتمل أن يكون فصلا وأن يكون تأكيدا للمفعول الأول ، وقرئ { أقل } بالرفع على أنه خبر { أنا } والجملة مفعول ثاني ل { ترَنِ } ، وفي قوله { وولدا } دليل لمن فسر النفر بالأولاد .
وقوله { ولولا إذ دخلت جنتك } الآية : وصية من المؤمن للكافر ، { ولولا } تحضيض ، بمعنى هلا و { ما } يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، بتقدير الذي إن شاء الله كائن ، وفي { شاء } ضمير عائد ، ويحتمل أن تكون شرطية ، بتقدير ما شاء الله كان ، ويحتمل أن تكون خبر ابتداء محذوف تقديره هو ما شاء الله ، أو الأمر ما شاء الله ، وقوله { لا قوة إلا بالله } تسليم وضد لقول الكافر { ما أظن أن تبيد هذه أبداً } وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة ؟ قال بلى يا رسول الله ، قال { لا قوة إلا بالله } إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم »{[2]} ، وفي حديث أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ » قال افعل يا رسول الله ، قال «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم »{[3]} ، واختلفت القراءة في حذف الياء من { ترن } وإثباتها فأثبتها ابن كثير وصلاً ووقفاً ، وحذفها ابن عامر وعاصم وحمزة فيهما ، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل فقط ، وقرأ الجمهور «أقلَّ » بالنصب على المفعول الثاني ، وقوله { أنا } فاصلة ملغاة وقرأ عيسى بن عمر : «أقلُّ » بالرفع ، على أن يكون { أنا } مبتدأ و «أقل » خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ، والرؤية ، رؤية القلب في هذه الآية .
{ ولو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله }
عطف جملة { ولولا إذ دخلت } على جملة { أكفرت } عطف إنكار على إنكار . و ( لولا ) للتوبيخ ، كشأنها إذا دخلت على الفعل الماضي ، نحو { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } [ النور : 13 ] ، أي كان الشأن { أن تقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله } عوض قولك : { ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة } [ الكهف : 36 ] . والمعنى : أكفرت بالله وكفرت نعمته .
و ( ما ) من قوله : { ما شاء الله } أحسن ما قالوا فيها إنها موصولة ، وهي خبر عن مبتدأ محذوف يدل عليه ملابسة حال دخول الجنة ، أي هذه الجنة مَا شاء الله ، أي الأمر الذي شاء الله إعطاءه إياي .
وأحسن منه عندي : أن تكون ( ما ) نكرة موصوفة . والتقدير : هذه شيء شاء الله ، أي لي .
وجملة { لا قوة إلا بالله } تعليل لكون تلك الجنة من مشيئة الله ، أي لا قوة لي على إنشائها ، أو لا قوة لمن أنشأها إلا بالله ، فإن القوى كلها موهبة من الله تعالى لا تؤثر إلا بإعانته بسلامة الأسباب والآلات المفكرة والصانعة . فما في جملة { لا قوة إلا بالله } من العُموم جعلها كالعلة والدليلِ لكون تلك الجنة جزئياً من جزئيات منشئات القوى البشرية الموهوبة للناس بفضل الله .
{ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا }
جملة ابتدائية رَجع بها إلى مجاوبة صاحبه عن قوله : { أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً } [ الكهف : 34 ] ، وعظه فيها بأنه لا يدري أن تصير كثرة ماله إلى قلة أو إلى اضمحلال ، وأن يصير القليلُ مالُه ذا مال كثير .