اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا} (39)

قوله : { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله } : " لولا " تحضيضيَّةٌ داخلة على " قلت " و " إذْ دَخلْتَ " منصوب ب " قُلْتَ " فصل به بين " لوْلاَ " وما دخلت عليه ، ولم يبال بذلك ؛ لأنه ليس بأجنبيٍّ ، وقد عرفت أنَّ حرف التحضيضِ ، إذا دخل على الماضي ، كان للتَّوبيخ .

ومعنى الكلام : هلاَّ إذا دخلت جنَّتك ، قلت : ما شَاءَ الله ، أي : الأمر ما شاء الله ، وقيل : جوابه مضمرٌ ، أي : ما شاء الله كان .

{ مَا شَآءَ الله } يجوز في " مَا " وجهان :

الأول : أن تكون شرطية ؛ فتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب " شاء " أي : أيَّ شيء شاء الله ، والجواب محذوف ، أي : ما شاء الله ، كان ووقع كما تقدم .

والثاني : أنها موصولة بمعنى " الذي " وفيها حينئذ وجهان :

أحدهما : أن تكون مبتدأة ، وخبرها محذوف ، أي : الذي شاء الله كائنٌ وواقعٌ .

والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : الأمر الذي شاءه الله ، وعلى كل تقدير : [ فهذه الجملة ] في محل نصبٍ بالقول .

قوله : " إلاَّ بالله " خبر " لا " التبرئةِ ، والجملة أيضاً منصوبة بالقولِ ، أي : هلاَّ قلت هاتين الجملتين .

فإن قيل : معنى { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } أي : لا أقدرُ على حفظ مالي ، ولا دفع شيءٍ عنه إلاَّ بالله .

روى هشامُ بن عروة عن أبيه : " أنَّهُ كان إذَا رأى مِنْ مَالهِ شَيْئاً يُعْجبهُ ، أو دَخَلَ حَائِطاً من حِيطانِه قال : مَا شَاءَ الله لا قُوَّة إلاَّ بالله " {[21082]} .

فالجواب : احتجَّ أهل السنَّة بقوله : { مَا شَآءَ الله } على أنَّ كلَّ ما أراده الله واقعٌ ، وكلَّ ما لم يقع ، لم يرده الله تعالى ؛ وهذا يدلُّ على أن الله ما أراد الإيمان من الكافر ، وهو صريحٌ في إبطال قول المعتزلة .

فصل في الرد على استدلال المعتزلة بالآية

[ ذكر الجبائيُّ ]{[21083]} والكعبيُّ بأنَّ تأويل قولهم : " مَا شَاءَ الله " ممَّا تولَّى فعله ، لا ما هو فعل العباد ، كما قالوا : لا مردَّ لأمر الله ، لم يرد ما أمر به العباد ، ثم قال : لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريد ، كما يحصل فيه ما ينهى عنه .

واعلم أنَّ الذي ذكره الكعبيُّ ليس جواباً عن الاستدلال ، بل هو التزامٌ لمخالفة ظاهر النصِّ ، وقياس الإرادة على الأمر باطلٌ ؛ لأنَّ هذا النصَّ دالٌّ على أنَّه لا يوجد إلاَّ ما أراده الله ، وليس في النصوص ما يدلُّ على أنَّه لا يدخل في الوجود إلاَّ ما أمر به ، فظهر الفرق . وأجاب القفَّال عنه بأن قال{[21084]} : هلاَّ إذا دخلت [ جنَّتك ]{[21085]} ، قلت : ما شاء الله ، أي : هذه الأشياء الموجودةُ في هذا البستان : ما شاء الله ؛ كقول الإنسان ، إذا نظر إلى شيءٍ عمله زيدٌ : عمل زيدٍ ، أي : هذا عمل زيدٍ .

ومثله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، أي : قالوا : ثلاثةٌ ، وقوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ الأعراف : 161 ] أي : وقولوا : هذه حطَّة ، وإذا كان كذلك ، كان [ المراد أن ]{[21086]} هذا الشيء الموجود في البستان شيءٌ شاء الله تكوينه ، وعلى هذا التقدير : لم يلزم أن يقال : وقع كلُّ ما شاء الله ؛ لأنَّ هذا الحكم غير عامٍّ في الكلِّ ، بل يختصُّ بالأشياء المشاهدة في البستان ، وهذا التأويلُ الذي ذكره القفَّال أحسن مما ذكره الجبائيُّ والكعبيُّ .

فصل

قال ابن الخطيب : وأقول : إنَّه على جوابه لا يندفع الإشكال عن المعتزلة ؛ لأنَّ عمارة ذلك البستان ، ربَّما حصلت بالغصوب ، وبالظُّلم الشديد ؛ فلا يصحُّ أيضاً على قول المعتزلة أن يقال : هذا واقعٌ بمشيئةِ الله ، اللهم ، إلاَّ أن يقال : المراد أنَّ هذه الثمار حصلت بمشيئة الله إلاَّ أنَّ هذا تخصيص لظاهر النصِّ من غير دليل .

وأمَّا أمر المؤمن الكافر بأن يقول : لا قُوَّة إلاَّ بالله ، أي : لا قُوَّة لأحدٍ على أمر من الأمور إلاَّ بإعانة الله وإقداره .

ثُمَّ إن المؤمن ، لما علَّم الكافر الإيمان ، أجابه عن الافتخار بالمال والنَّفر ، فقال : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } .

واعلم أن ذكر الولد ها هنا يدلُّ على أنَّ المراد بالنَّفر المذكور في قوله : { وَأَعَزُّ نَفَراً } الأعوان والأولاد .

وقوله : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ } يجوز في " أنا " وجهان :

أحدهما : أن يكون مؤكِّداً لياء المتكلم .

والثاني : أنه ضمير الفصل بين المفعولين ، و " أقلَّ " مفعول ثانٍ ، أو حال بحسب الوجهين في الرؤية ، هل هي بصرية أو علمية ؟ إلا أنَّك إذا جعلتها بصرية ، تعيَّن في " أنَا " أن تكون توكيداً ، لا فصلاً ؛ لأنَّ شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر ، أو ما أصله المبتدأ والخبر .

وقرأ{[21087]} عيسى بن عمر " أقلُّ " بالرفع ، ويتعيَّن أن يكون " أنا " مبتدأ ، و " أقلُّ " خبره ، والجملة : إمَّا في موضع المفعول الثاني ، أو في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية .

و " مَالاً وولداً " تمييزٌ ، وجواب الشرط قوله " فعَسَى ربِّي " .


[21082]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/404) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان".
[21083]:في ب: أجاب.
[21084]:ينظر: الفخر الرازي 21/108.
[21085]:في ب: بستانك.
[21086]:سقط من ب.
[21087]:ينظر: الكشاف 2/723، والبحر 6/123، والدر المصون 4/458.