وجملة { خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ } بدل من قوله { الذي خَلَقَ } بدل بعض من كل ، إذ خلق الإِنسان يمثل جزءا من خلق المخلوقات التى لا يعلمها إلا الله .
و " العلق " الدم الجامد ، وهو الطور الثانى من أطوار خلق الإِنسان .
وقيل : العلق : مجموعة من الخلايا التى نشأت بطريقة الانقسام عن البويضة الملقحة ، وسمي " علقا " لتعلقه بجدار الرحم .
والمقصود من هذه الجملة الكريمة بيان مظهر من مظاهر قدرته - تعالى - فكأنه - سبحانه - يقول : إن من كان قادراً على أن يخلق من الدم الجامد إنساناً يسمع ويرى ويعقل . . قادر - أيضاً - على أن يجعل منك - أيها الرسول الكريم - قارئاً ، وإن لم تسبق لك القراءة .
وخص - سبحانه - خلق الإِنسان بالذكر ؛ لأنه أشرف المخلوقات ، ولأن فيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه .
ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه ، وما يجده كل مفطور في نفسه ، فقال : { خلق الإنسان من علق } ، وخلقه الإنسان من أعظم العبر حتى أنه ليس في المخلوقات التي لدينا أكثر عبراً منه في عقله وإدراكه ورباطات بدنه وعظامه ، والعلق جمع علقة ، وهي القطعة اليسيرة من الدم ، و { الإنسان } هنا : اسم الجنس ، ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان ، وليست الإشارة إلى آدم ، لأنه مخلوق من طين ، ولم يكن ذلك متقرراً عند الكفار المخاطبين بهذه الآية ، فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريباً لأفهامهم .
وجملة { خلق الإنسان من علق } يجوز أن تكون بدلاً من جملة { الذي خلق } بدل مفصَّل من مُجْمل إن لم يقدر له مفعول ، أو بدل بعض إن قُدِّر له مفعول عام ، وسُلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداءً لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام .
ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل .
ويجوز أن تكون بياناً من { الذي خلق } إذا قُدر لفعل { خلق } الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام : اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق .
وعدم ذكر مفعول لفعل { خلق } يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، أي الذي هو الخالق وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم ، أي خلق كل المخلوقات ، وأن يكون تقديره : الذي خلق الإنسان اعتماداً على ما يرد بعده من قوله { خلق الإنسان } ، فهذه معانٍ في الآية .
وخص خلق الإِنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطَّرد في مقام الاستدلال إذ لا يَغفُلُ أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده ولذلك قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم .
وفي قوله : { من علق } إشارة إلى ما ينطوي في أصل خَلْق الإِنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطانَ هذا العالم الأرضي .
والعلق : اسم جمع عَلَقَة وهي قطعةٌ قَدرُ الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطْباً لم يجفّ ، سمي بذلك تشبيهاً لها بدودةٍ صغيرة تسمَّى علقة ، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة ، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده وقد تدخل إلى فم الدابة وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يُتفطن لها .
ومعنى : { خلق الإنسان من علق } أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافيَة تصيران علقةً فإذا صارت علقة فقد أخذت في أطوار التكوّن ، فجُعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تُجعل النطفة مبدأ الخلق لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة .
ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإِنسان يتخلق من بويضة دقيقة جداً لا ترى إلا بالمرآة المكبِّرة أضعافاً تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يَعُقْها عائق كما قال تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } [ الحج : 5 ] ، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلاً فشابهت العلقة التي في الماء مشابَهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي سابحة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة ، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.