{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } أي : الرؤساء الذين قد كبر جرمهم ، واشتد طغيانهم { لِيَمْكُرُوا فِيهَا } بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان ، ومحاربة الرسل وأتباعهم ، بالقول والفعل ، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم ، لأنهم يمكرون ، ويمكر الله والله خير الماكرين .
وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم ، يناضلون هؤلاء المجرمين ، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله ، ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك ، ويعينهم الله ويسدد رأيهم ، ويثبت أقدامهم ، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم ، حتى يدول الأمر في عاقبته بنصرهم وظهورهم ، والعاقبة للمتقين .
ثم سلى الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أن المترفين فى كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح ، وأن ما لقيه صلى الله عليه وسلم من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شىء رآه الأنبياء قبله على أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال - تعالى - : { وكذلك جَعَلْنَا . . . } .
أكابر : جمع أكبر ، وهم الرؤساء والعظماء فى الأمم . والمجرمون : جمع مجرم ، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا ، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم .
والمعنى : وكما جعلنا فى قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا فى كل قرية من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها ، ويتجبروا على الناس ، ثم كانت العاقبة للرسل ، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة فى كل عصر ، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين .
قال الجمل : وقوله : { أَكَابِرَ } مفعول أول لجعل ، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه ، و { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } المفعول الثانى لجعل ، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه ، فهو على حد قوله :
كذا إذا عاد عليه مضمر . . . مما به عنه مبينا يخبر
هذا أحسن الأعاريب وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال .
وخص الأكابر بالمكر ، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال ، وهم الذين يتبعهم الضعفاء فى كفرهم وفجورهم .
قال ابن كثير : والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله - تعالى - إخباراً عن قوم نوح { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } وكقوله : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } الآية . وقوله - سبحانه - { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين فى كل وقت إلا بأنفسهم ، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم فى الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم ، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره ، بل يتوهمون أنهم سينجون فى مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين .
فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله فى خلقه ، وهى أن المكر السىء لا يحيق إلا بأهله ، وفى ذلك تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما يصيبه منهم ، وبشارة له ، ولأصحابه بالنصر عليهم ، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير .
وجملة { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير يمكرون ، وهى تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل .
يقول تعالى : وكما جعلنا في قريتك - يا محمد - أكابر من المجرمين ، ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله ، وإلى مخالفتك وعداوتك ، كذلك كانت الرسل من قبلك يُبْتَلون بذلك ، ثم تكون لهم العاقبة ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ] {[11168]} } [ الفرقان : 31 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ]{[11169]} } [ الإسراء : 16 ] ، قيل : معناه : أمرناهم بالطاعات ، فخالفوا ، فدمرناهم . وقيل : أمرناهم أمرا قدريا ، كما قال هاهنا : { لِيَمْكُرُوا فِيهَا }
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : { أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } قال : سَلَّطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب .
وقال مجاهد وقتادة : { أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } قال عظماؤها .
قلت : وهذا كقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 34 ، 35 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
والمراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال ، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم نوح : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [ نوح : 22 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] }{[11170]} [ سبأ : 31 - 33 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابنُ أبي عمر ، حدثنا سفيان قال : كل مكر في القرآن فهو عمل .
وقوله : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم ، كم قال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وقال { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] .
{ وكذلك جعلنا في كل قرية } وهذه الآية تتضمن إنذاراً بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم ، لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظرائهم ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في المستهزئين .
قال القاضي أبو محمد : يعني أن التمثيل لهم ، و { جعلنا } في هذه الآية بمعنى صيرنا ، فهي تتعدى إلى مفعولين الأول { مجرميها } والثاني { أكابر } وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ، وقدم الأهم إذ لعلة كبرهم أجرموا ، ويصح أن يكون المفعول الأول { أكابر } و { مجرميها } مضاف ، والمفعول الثاني في قوله { في كل قرية } و { ليمكروا } نصب بلام الصيرورة ، والأكابر جمع أكبر كما الأفاضل جمع أفضل ، ويقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة ، ومنهم قول الشاعر [ الأعشى ] : [ الكامل ]
إنَّ الأَحَامِرَة الثّلاثة أتْلَفَتْ . . . مالي وكنتُ بهنَّ قَِدْماً مُولَعا{[5078]}
يريد الخمر واللحم والزعفران ، و «المكر » التخيل بالباطل والخديعة ونحوهما ، وقوله { وما يمكرون إلا بأنفسهم } يريد لرجوع وبال ذلك عليهم ، { وما يشعرون } أي ما يعلمون ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار وهو الشيء الذي يلي البدن ، فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس ، وفي ذلك مبالغة في صفة جهله ، إذ البهائم تعلم علوم الحس وأما هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة .