65- وكما أرسلنا نوحاً إلى قومه داعياً إلى التوحيد ، أرسلنا إلى عاد{[68]} هودا واحداً منهم علاقته بهم كعلاقة الأخ بأخيه ، فقال لهم : يا قوم اعبدوا الله - وحده - وليس لكم إله غيره ، وإن ذلك سبيل الاتقاء من الشر والعذاب وهو الطريق المستقيم ، فهلا سلكتموه لتتقوا الشر والفساد ؟ .
أي : { و } أرسلنا { إِلَى عَادٍ } الأولى ، الذين كانوا في أرض اليمن { أَخَاهُمْ } في النسب { هُودًا } عليه السلام ، يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك والطغيان في الأرض .
ف { قَالَ } لهم : { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } سخطه وعذابه ، إن أقمتم على ما أنتم عليه ، فلم يستجيبوا ولا انقادوا .
ثم تحكى لنا السورة بعد ذلك قصة هود - عليه السلام - مع قومه ، فيقول الله - تعالى - : { وإلى عَادٍ . . . . } .
تلك هى قصة هود - عليه السلام - مع قومه كما حكتها سورة الأعراف . وقد وردت - أيضاً - في سورة أخرى ، منها : سورة هود ، والشعراء ، والأحقاف . . . إلخ .
وينتهى نسب هود إلى نوح - عليهما السلام - كما قال بعض المؤرخين . فهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح .
وقومه هم قبيلة عاد - نسبة إلى أبيهم الذي كان يسمى بهذا الاسم - وكانت مساكنهم بالأحقاف جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل .
وكانوا يعبدون الأصنام من دون الله ، فأرسل الله إليهم هوداً لهدايتهم ، ويقال بأن هوداً - عليه السلام - قد أرسله الله إلى عاد الأولى ، أما عاد الثاني فهم قوم صالح ، وبينهما مائة سنة .
وقوله : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } إلخ معطوف على قوله - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } والمعنى :
وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم فقال لهم ما قاله كل نبى لقومه : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .
ووصفه بأنه أخاهم لأنه من قبيلتهم نسباً ، أو لأنه أخوهم في الإنسانية ، ثم حكى القرآن أن هوداً أنكر على قومه عبادتهم لغير الله ، وحضهم على إفراده بالعبادة فقال : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى . ولما كان ما حل بقوم نوح من أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال لهم : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وواقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها فاكتفى هود بقوله لهم : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } . والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله وعبدوا غيره حل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا ، فقوله : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المشهورة " .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
يقول تعالى : وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحًا ، كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا .
قال محمد بن إسحاق : هم [ من ]{[11862]} ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح .
قلت : وهؤلاء هم عاد الأولى ، الذين ذكرهم الله [ تعالى ]{[11863]} وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العَمَد في البر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } [ الفجر : 6 - 8 ] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ فصلت : 15 ] .
وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف ، وهي جبال الرمل .
قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، سمعت علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[11864]} يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه مَدَرَة حمراء ذا أرَاكٍ وسدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت ، هل رأيته ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين . والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه . قال : لا ولكني قد حدِّثتُ عنه . فقال الحضرمي : وما شأنه يا أمير المؤمنين ؟ قال : فيه قبرُ هود ، عليه السلام .
رواه ابن جرير{[11865]} وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن ، وأن هودا ، عليه السلام ، دفن هناك ، وقد كان من أشرف{[11866]} قومه نسبا ؛ لأن الرسل [ صلوات الله عليهم ]{[11867]} إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم ، ولكن كان قومه كما شُدّد خلقهم شُدِّد على قلوبهم ، وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق ؛ ولهذا دعاهم هود ، عليه السلام ، إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وإلى طاعته وتقواه .