4- قد كانت لكم قدوة حسنة تقتدون بها في إبراهيم والذين آمنوا معه ، حين قالوا لقومهم : إنا بريئون منكم ومن الآلهة التي تعبدونها من دون الله ، جحدنا بكم وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ، لا تزول أبداً حتى تؤمنوا بالله - وحده - لكن قول إبراهيم لأبيه : لأطلبن لك المغفرة ، وما أملك من الله من شيء - ليس مما يقتدي به - لأن ذلك كان قبل أن يعلم أنه مصمم على عداوته لله ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، قولوا : - أيها المؤمنون - ربنا عليك اعتمدنا ، وإليك رجعنا ، وإليك المصير في الآخرة .
قد كانت لكم يا معشر المؤمنين { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : قدوة صالحة وائتمام ينفعكم ، { فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين ، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ، { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين ، من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله .
ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح ، فقالوا : { كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا } أي : ظهر وبان ، { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ } أي : البغض بالقلوب ، وزوال مودتها ، والعداوة بالأبدان ، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد ، بل ذلك { أَبَدًا } ما دمتم مستمرين على كفركم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي : فإذا آمنتم بالله وحده ، زالت العداوة والبغضاء ، وانقلبت مودة وولاية ، فلكم أيها المؤمنون أسوة [ حسنة ] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد ، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته ، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده ، { إِلَّا } في خصلة واحدة وهي { قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ } آزر المشرك ، الكافر ، المعاند ، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد ، فامتنع ، فقال إبراهيم : { لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ و } الحال أني لا { أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا ، فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك ، فليس لكم أن تدعوا للمشركين ، وتقولوا : إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم ، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إن إبراهيم لأواه حليم }
ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه ، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ، واعترفوا بالعجز والتقصير ، فقالوا : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا ، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك .
{ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك ، فنحن في ذلك ساعون ، وبفعل الخيرات مجتهدون ، ونعلم أنا إليك نصير ، فسنستعد للقدوم عليك ، ونعمل ما يقربنا الزلفى إليك{[1053]} .
وبعد هذا النهى للمؤمنين عن موالاة أعداء الله وأعدائهم . . . ساقت لهم السورة الكريمة ، جانبا من قصة إبراهيم - عليه السلام - الذى تبرأ من كل صلة تربطه بغيره سوى صلة الإيمان ، وإخلاص العبادة لله - تعالى - ، وأمرتهم بأن يقتدوا به فى ذلك لينالوا رضا الله - عز وجل - فقال - تعالى - : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ . . . } .
الأسوة كالقدوة ، وهى اتباع الغير على الحالة التى يكون عليها ، قال - تعالى - : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } تأكيد لأمر الإنكار عليهم ، والتخطئة فى موالاة الكفار ، بقصة إبراهيم - عليه السلام - ومن معه ، ليعلم أن الحب فى الله - تعالى - والبغض فيه - سبحانه - من أوثق عرا الإيمان ، فلا ينبغى أن يغفل عنها .
والأسوة - بضم الهمزة وكسرها - بمعنى الائتساء وكسرها - بمعنى الائتساء والاقتداء ، وتطلق على الخصلة التى من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها ، وعلى نفس الشخص المؤتسى به .
والمعنى : قد كان لكم - أيها المؤمنون - أسوة حسنة ، وخصلة حميدة ، ومنقبة كريمة ، فى قصة أبيكم إبراهيم - عليه السلام - ، وفى قصة الذين آمنوا معه .
وافتتح - سبحانه - الكلام بقوله : { قَدْ كَانَتْ } لتأكيد الخبر ، فإن هذا الأسلوب المشتمل على قد وفعل الكون ، يفيد التأكيد بموجب الخبر ، والتعريض بغفلة من يخالفه .
ووصف - سبحانه - الأسوة بالحسن ، على سبيل المدح لها والتحريض على الاقتداء بصاحبها .
وعطف - سبحانه - على إبراهيم الذين آمنوا معه ، ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم - صلى الله عليه وسلم - أى : كونوا - أيها المؤمنون - متأسين ومقتدين برسولكم - صلى الله عليه وسلم - ومطيعين له ، ومستجيبين لتوجيهاته ، كما كان أتباع أبيكم إبراهيم كذلك .
ثم بين - سبحانه - ما يجب عليهم الاقتداء به من حال إبراهيم - عليه السلام - والمؤمنين معه ، فقال : { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } و { إِذْ } ظرف زمان بمعنى وقت وحين ، وهو يدل اشتمال من إبراهيم والذين معه . أو خبر لكان .
{ بُرَءآؤاْ } جمع برئ . يقال : برئ فلان من كذا يبرأ براء وبراءة . إذا ابتعد عنه ، لكراهته له .
أى : قد كان لكم - أيها المؤمنون - أسوة حسنة فى إبراهيم - عليه السلام - وفى الذين آمنوا معه ، وقت أن قالوا لقومهم الكافرين ، بشجاعة وقوة : إنا برآة منكم ، ومن آلهتكم التى تعبدونها من دون الله - عز وجل - وإننا قد كفرنا بكم وبمعبوداتكم { وَبَدَا } أى : وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغض على سبيل التأييد والاستمرار ، ولن نتخلى عن ذلك معكم ، حتى تؤمنوا بالله - تعالى - وحده ، وتتركوا عبادتكم لغيره - تعالى - .
فأنت ترى أن إبراهيم - عليه السلام - والمؤمنين معه ، قد أعلنوا بكل شجاعة وشدة ، إيمانهم الكامل بالحق ، وبراءتهم وكراهيتهم واحتقارهم ، لكل من أشرك مع الله - تعالى - فى العبادة آلهة أخرى .
وأنهم لم يكتفوا بالتغيير القلبى للمنكر ، بل جاهروا بعداوتهم له ، وبالتنزه عن اقترابهم منه . وبتجافيهم عنه . . ولعل هذا هو أقصى ما كانوا يملكونه بالنسبة لتغيير هذا المنكر فى ذلك الوقت .
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن إبراهيم - عليه السلام - لم يكتف بذلك ، بل حطم الأصنام التى كان يعبدها قومه وقال لهم : { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } قال صاحب الكشاف : أى : كان فيهم - أى : فى إبراهيم ومن آمن معه - مذهب حسن مرضى ، جدير بأن يؤتسى به ، ويتبع أثره ، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا ، حيث كاشفوهم بالعداوة ، وقشروا لهم العصا ، وأظهروا لهم البغضاء والمقت ، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ، ليس إلا كفرهم بالله .
وما دام هذا السبب قائما ، كانت العداوة قائمة ، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده ، انقلبت العداوة موالاة ، والبغضاء مودة ، والمقت محبة - فأفصحوا عن محض الإخلاص .
وقوله - تعالى - : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ . . . } كلام معترض بين الأقوال التى حكاها - سبحانه - عن إبراهيم - عليه السلام - .
والاستثناء يترجح أنه منقطع ، لأن هذا القول من إبراهيم لأبيه ، ليس من جنس الكلام السابق ، الذى تبرأ فيه هو ومن معه مما عليه أقوامهم الكافرون .
والمعنى : اقتدوا - أيها المؤمنون - بأبيكم إبراهيم - عليه السلام - وبالذين آمنوا معه ، فى براءتهم من الشرك والمشركين . . . ولكن لا تقتدوا به فى استغفاره لأبيه الكافر ، لأن استغفاره له كان عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه .
قال الإمام الشوكانى ما ملخصه : قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ . . } هو استثناء متصل من قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } بتقدير مضاف . . . أى : قد كانت لكم أسوة حسنة فى مقالات إبراهيم ، إلا فى قوله لأبيه : لأستغفرن لك .
ويصح أن يكون استثناء متصلا من قوله : { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة ، فكأنه قيل : قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم فى جميع أقواله وأفعاله ، إلا فى قوله لأبيه لأستغفرن لك .
أو هو استثناء منقطع ، أى : اقتدوا بإبراهيم فى كل أقواله وأحواله . لكن لا تقتدوا به فى قوله لأبيه المشرك : لأستغفرن لك ، بأن تستغفروا لآبائكم المشركين ، لأن استغفار إبراهيم لأبيه المشرك كان عن موعدة وعدها إياه ، أو أنه ظن أن أباه قد أسلم .
وقوله - سبحانه - { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } حكاية لبقية كلام إبراهيم لأبيه ، وليس الاستثناء متوجها إليه ، لأن هذه الجملة بيان لما تحلى به إبراهيم - عليه السلام - من آداب مع ربه - تعالى - حيث فوض الأمر إليه - سبحانه - .
أي : وعد إبراهيم أباه بالاستغفار له ، أملا فى هدايته ، وقال له : يا أبت إنى لا أملك لك من أمر قبول الاستغفار شيئان بل الأمر كله الله ، إن شاء عذبك وإن شاء عفا عنك ، والجملة الكريمة فى محل نصب على الحال من فاعل { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أى : لأستغفرن لك حالة كونى لا أملك من أمر المغفرة أو غيرها شيئا ، وإنما الذى يملك ذلك هو الله - عز وجل - .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا مما تضرع به إبراهيم - عليه السلام - إلى خالقه فقال : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } أي : يا ربنا عليك وحدك فوضنا أمورنا ، وإليك وحدك قبول توبتنا ، وإليك لا إلى أحد سواك مرجعنا ومصيرنا .
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : وأتباعه الذين آمنوا معه { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ } أي : تبرأنا منكم { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } أي : بدينكم وطريقكم ، { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا } يعني : وقد شُرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ، ما دمتم على كفركم فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي : إلى أن تُوحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له ، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأنداد والأوثان .
وقوله : { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي : لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها ، إلا في استغفار إبراهيم لأبيه ، فإنه إنما كان عن مَوعِدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يَدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ، ويقولون : إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه ، فأنزل الله ، عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 113 ، 114 ] . وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } إلى قوله : { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : ليس لكم في ذلك أسوة ، أي : في الاستغفار للمشركين ، هكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك وغير واحد .
ثم قال تعالى مخبرًا عن قول إبراهيم والذين معه ، حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم ، فلجئوا إلى الله وتضرّعوا{[28664]} إليه فقالوا : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : توكلنا عليك في جميع الأمور ، وسَلَّمنا أمورَنا إليك ، وفوضناها إليك { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : المعاد في الدار الآخرة .
{ قد كانت لكم أسوة حسنة }قدوة اسم لما يؤتسى به ، { في إبراهيم والذين معه }صفة ثانية أو خبر كان و لكم لغوا أو حال من المستكن في حسنة أو صلة لها لا ل أسوة لأنها وصفت { إذ قالوا لقومهم }ظرف لخبر كان { إنا برآء منكم }جميع بريء كظريف وظرفاء ، { ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم }أي بدينكم أو بمعبودكم أو بكم وبه فلا نعتد بشأنكم وآلهتكم ، { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }فتنقلب العداوة والبغضاء ألفة ومحبة ، { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } استثناء من قوله { أسوة حسنة } فإن استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر ليس مما ينبغي أن يأتسوا به فإنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه ، { وما أملك لك من الله من شيء }من تمام قوله المستثنى ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه ، { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } متصل بما قبل الاستثناء أو أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه تتميما لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار .
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فى إبراهيم والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا برءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا وبيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } .
صدر هذه الآية يفيد تأكيداً لمضمون جملة { إن يثقفوكم } [ الممتحنة : 2 ] وجملة { لن تنفعكم أرحامكم } [ الممتحنة : 3 ] ، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوةَ الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ .
ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدوَّ الله بما يجرّ إلى أصحابه من مضارّ في الدنيا وفي الآخرة تحذيراً لهم من ذلك ، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من فعل أهل الإِيمان الصادق والاستقامة القويمة وناهيك بها أسوة .
وافتتاح الكلام بكلمتي { قد كانت } لتأكيد الخبر ، فإن { قد } مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإِنكار على المخاطب ولومه في الإِعراض عن العمل بما تضمنه الخبر كقول عُمر لابن عباس يوم طَعَنه غلامُ المغيرة : « قد كنتَ أنتَ وأبوك تُحبان أن يكثر هؤلاء الأعلاجُ بالمدينة » ، ومنه قوله تعالى : { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك } [ ق : 22 ] توبيخاً على ما كان منهم في الدنيا من إنكار للبعث ، وقوله تعالى : { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } [ القلم : 43 ] وقوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } [ الأحزاب : 21 ] .
ويتعلق { لكم } بفعل « كان » ، أو هو ظرف مستَقِرّ وقع موقع الحال من { أسوة حسنة } .
وإبراهيم عليه السلام مَثَل في اليقين بالله والغضب به ، عَرف ذلك العرب واليهود والنصارى من الأمم ، وشاع بين الأمم المجاورة من الكنعانيين والأَراميين ، ولعله بلغ إلى الهند . وقد قيل : إن اسم ( بَرهما ) معبودِ البراهة من الهنود مُحرف عن ( اسم إبراهيم ) وهو احتمال .
وعُطف { والذين معه } ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم بحال إبراهيم عليه السلام والذين معه ، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم صلى الله عليه وسلم كما كان الذين مع إبراهيم عليه السلام .
والمراد ب { الذين معه } الذين آمنوا به واتبعوا هديه وهم زوجه سَارَةُ وابن أخيه لوطٌ ولم يكن لإِبراهيم أبناء ، فضمير { إذ قالوا } عائد إلى إبراهيم والذين معه فهم ثلاثة .
و { إذْ } ظرف زمان بمعنى حينَ ، أي الأسوة فيه وفيهم في ذلك الزمن .
والمراد بالزمن : الأحوال الكائنة فيه ، وهو ما تبينه الجملة المضاف إليها الظرف وهي جملة { قالوا لقومهم إنا برءآء منكم } الخ .
والإِسوة بكسر الهمزة وضمها : القُدوة التي يقتدَى بها في فعل ما . فوصفت في الآية ب { حسنة } وصفاً للمدح لأن كونها حسنة قد علم من سياق ما قبله وما بعده .
وقرأ الجمهور { إسوة } بكسر الهمزة ، وقرأه عاصم بضمها . وتقدمت في قوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } في سورة [ الأحزاب : 21 ] .
وحرف { في } مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة ، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف .
ولذلك كان المعنى : قد كانَ لكم إبراهيمُ والذين معه أسوةً في حين قولهم لقومهم . فليس قوله : { إسوة حسنة في إبراهيم } من قبيل التجريد مثل قول أبي خالد العتابي .
وفي الرَّحمان للضعفاء كاف{[415]}
لأن الأسوة هنا هي قول إبراهيم والذين معه لا أنفسهم .
و { برءآء } بهمزتين بوزن فُعَلاء جَمْع بريء مثل كَريم وكُرماء .
وبريء فعيل بمعنى فاعل من بَرِىء من شيء إذا خَلاَ منه سواءً بعد ملابسته أو بدون ملابسة .
والمراد هنا التبرؤ من مخالطتهم وملابستهم . . وعطف عليه { ومما تعبدون من دون الله } أي من الأصنام التي تعبدونها من دون الله والمراد بُرَءآء من عبادتها .
وجملة { كفرنا بكم } وما عطف عليها بيان لمعنى جملة { إنا برءآء } .
وضمير { بكم } عائد إلى مجموع المخاطبين من قومهم مع ما يعبدونه من دون الله ، ويفسَّر الكفرُ بما يناسب المعطوف عليه والمعطوف ، أي كفرنا بجميعكم فكفرهم بالقوم غير كفرهم بما يعبده قومهم .
وعُطف عليه { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً } وبدا معناه : ظهر ونشأ ، أي أحدثنا معكم العداوة ظاهرةً لا مواربة فيها ، أي ليست عداوة في القلب خاصة بل هي عداوة واضحة علانية بالقول والقلب . وهو أقصى ما يستطيعه أمثالهم من درجات تغيير المنكر وهو التغيير باللسان إذ ليسوا بمستطيعين تغيير ما عليه قومهم باليَد لقلتهم وضعفهم بين قومهم .
و { العداوة } المعاملة بالسوء والاعتداءِ .
و { البغضاء } : نفرة النفس ، والكراهيةُ وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقتا ، فذِكرهما معاً هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم : حالة المعاملة بالعدوان ، وحالة النفرة والكراهية ، أي نُسِيءُ معاملتكم ونُضمر لكم الكراهية حتى تؤمنوا بالله وحده دون إشراك .
والمراد بقولهم هذا لقومهم أنهم قالوه مقال الصادق في قوله ، فالائتساء بهم في ذلك القول والعمل بما يترجم عليه القول مما في النفوس ، فالمؤتَسَى به أنهم كاشفوا قومهم بالمنافرة ، وصرحوا لهم بالبغضاء لأجل كفرهم بالله ولم يصانعوهم ويغضُّوا عن كفرهم لاكتساب مودتهم كما فعل الموبخ بهذه الآية .
{ إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاَِبِيهِ لاََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شيء } .
الأظهر أن هذه الجملة معترضة بين جمل حكاية مقال إبراهيم والذين معه وجملة { لقد كان لكم فيهم إسوة حسنة } [ الممتحنة : 6 ] ، والاستثناء منقطع إذ ليس هذا القول من جنس قولهم : { إنا برءآء منكم } الخ ، فإن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك رفقٌ بأبيه وهو يغاير التبرُّؤ منه ، فكان الاستثناء في معنى الاستدراك عن قوله : { إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم } الشامل لمقالة إبراهيم معهم لاختلاف جنسي القولين .
قال في « الكشاف » في قوله تعالى : { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط } في سورة [ الحجر : 58 ، 59 ] . أنه استثناء منقطع من قوم } لأن القوم موصوفون بالإِجرام فاختلَف لذلك الجنسان اهـ .
فجعل اختلاف جنسي المستثنى والمستثنى منه موجباً اعتبار الاستثناء منقطعاً . وفائدة الاستدراك هنا التعريض بخطأ حاطب ابن أبي بلتعة ، أي إن كنتم معتذرين فليكن عذركم في مواصلة أعداء الله بأن تَوَدُّوا لهم مغفرةَ كفرهم باستدعاء سبب المغفرة وهو أن يهديهم الله إلى الدين الحق كما قال إبراهيم لأبيه { لأستغفرن لك } ، ولا يكون ذلك بمصانعة لا يفهمون منها أنهم منكم بمحلّ المودة والعناية فيزدادوا تعنتاً في كفرهم .
وحكاية قول إبراهيم لأبيه { وما أملك لك من الله من شيء } إكمال لجملة ما قاله إبراهيم لأبيه وإن كان المقصود من الاستثناء مجرد وعده بالاستغفار له فبني عليه ما هو من بقية كلامه لما فيه من الدلالة على أن الاستغفار له قد لا يقبله الله .
والواو في { وما أملك لك من الله من شيء } يجوز أن تكون للحال أو للعطف . والمعنى متقارب ، ومعنى الحال أوضح وهو تذييل .
ومعنى الملك في قوله : { وما أملك } القدرة ، وتقدم في قوله تعالى : { قل فمن يملك من الله شيئاً } في سورة [ العقود : 17 ] .
و{ من شيء } عامّ للمغفرة المسؤولة وغيرها مما يريده الله به .
{ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } .
الأظهر أن يكون هذا من كلام إبراهيم وقومه وجملة { إلا قول إبراهيم } إلى آخرها معترضة بين أجزاء القول فهو مما أمر المسلمون أن يأتسوا به ، وبه يكون الكلام شديد الاتصال مع قوله : { لقد كان لكم فيهم إسوة حسنة } [ الممتحنة : 6 ] .
ويحتمل أن يكون تعليماً للمؤمنين أن يقولوا هذا الكلام ويستحضروا معانيه ليجري عملهم بمقتضاه فهو على تقدير أمر بقول محذوف والمقصود من القول العمل بالقول فإن الكلام يجدد المعنى في نفس المتكلم به ويذكر السامع من غفلته . وهذا تتميم لما أوصاهم به من مقاطعة الكفار بعد التحريض على الائتساء بإبراهيم ومن معه .
فعلى المعنى الأول يكون حكاية لما قاله إبراهيم وقومه بما يفيد حاصل معانيه فقد يكون هو معنى ما حكاه الله عن إبراهيم من قوله : { الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفينِ والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 78 82 ] .
فإن التوكل على الله في أمور الحياة بسؤاله النجاح في ما يصلح أعمال العبد في مساعيه وأعظمه النجاحُ في دينه وما فيه قوام عيشه ثم ما فيه دفع الضرّ . وقد جمعها قول إبراهيم هناك { فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين } . وهذا جمعه قوله هنا { عليك توكلنا } { والذي يميتني ثم يحيين } جمعه قوله : { وإليك المصير } فإن المصير مَصيرانِ مصيرٌ بعد الحياة ومصير بعد البعث .
وقوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي } فإن وسيلة الطمع هي التوبة وقد تضمنها قوله : { وإليك أنبنا } .
وعلى المعنى الثاني هو تعليم للمؤمنين أن يَصرفوا توجههم إلى الله بإرضائه ولا يلتفتوا إلى ما لا يرضاه وإن حسبوا أنهم ينتفعون به فإن رضى الله مقدم على ما دونه .
والقول في معنى التوكل تقدم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .
والإِنابة : التوبة ، وتقدمت عند قوله تعالى : { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } في سورة [ هود : 75 ] ، وعند قوله : { منيبين إليه } في سورة [ الروم : 31 ] .
وتقديم المجرور على هذه الأفعال لإِفادة القصر ، وهو قصر بعضه ادعائي وبعضه حقيقي كما تصرف إليه القرينة .
وإعادة النداء بقولهم : { ربنا } إظهار للتضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث .