فأخبر الحواريون أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى ، وإنما لهم مقاصد صالحة ، ولأجل الحاجة إلى ذلك ف { قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا } وهذا دليل على أنهم محتاجون لها ، { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } بالإيمان حين نرى الآيات العيانية ، فيكون{[284]} الإيمان عين اليقين ، كما كان قبل ذلك علم اليقين . كما سأل الخليل عليه الصلاة والسلام ربه أن يريه كيف يحيي الموتى { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فالعبد محتاج إلى زيادة العلم واليقين والإيمان كل وقت ، ولهذا قال : { وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا } أي : نعلم صدق ما جئت به ، أنه حق وصدق ، { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } فتكون مصلحة لمن بعدنا ، نشهدها لك ، فتقوم الحجة ، ويحصل زيادة البرهان بذلك .
ثم حكى القرآن ما رد به الحواريون على عيسى فقال : { قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } .
أي : قال الحواريون لعيسى إننا نريد نزول هذه المائدة علينا من السماء لأسباب :
أولها : إننا نرغب في الأكل منها لننال البركة ، ولأننا في حاجة إلى الطعام بعد أن ضيق علينا أعداؤك وأعداؤنا الذين لم يؤمنوا برسالتك .
وثانيها : أننا نرغب في نزولها لكي تزداد قلوبنا اطمئنانا إلى أنك صادق فيما تبلغه عن ربك ، فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالي ، مما يؤدي إلى رسوخ الإِيمان ، وقوة اليقين .
وثالثها : أننا نرغب في نزولها لكي نعلم أن قد صدقتنا في دعوة النبوة ، وفي جميع ما تخبرنا به من مأمورات ومنهيات ، لأن نزولها من السماء يجعلها تخالف ما جئتنا به من معجزات أرضية ، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على صدقك في نبوتك .
ورابع هذه الأسباب : أننا نرغب في نزولها لكي نكون من الشاهدين على هذه المعجزة عند الذين لم يحضروهاه من بني إسرائيل ، ليزداد الذين آمنوا منهم إيماناً ، ويؤمن الذي عنده استعداد للإِيمان .
وبذلك نرى أن الحواريين قد بينوا لعيسى - كما حكى القرآن عنهم - أنهم لا يريدون نزول المائدة من السماء لأنهم يشكون في قدرة الله ، أو في نبوة عيسى أو أن مقصدهم من هذا الطلب التعنت .
وإنما هم يريدون نزولها لتلك الأسباب السابقة التي يبغون من ورائها الأكل وزيادة الإِيمان واليقين والشهادة أمام الذين لم يحضروا نزولها بكمال قدرة الله وصدق عيسى في نبوته .
{ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا } أي : نحن محتاجون إلى الأكل منها { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } إذا شاهدنا نزولها رزقًا لنا من السماء { وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا } أي : ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك ، { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } أي : ونشهد أنها آية من عند الله ، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم:"اتّقُوا اللّهَ إن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" في قولكم "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ ": إنّا إنما قلنا ذلك وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة، فنعلم يقينا قدرته على كلّ شيء، "وتَطْمَئِنّ قُلُوبُنا ": وتسكن قلوبنا وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كلّ ما شاء وأراد، "ونعلم أن قد صدقتنا": ونعلم أنك لم تكذّبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث. "ونَكُونَ عَلَيْها": ونكون على المائدة، "مِنَ الشّاهِدِينَ": ممن يشهد أن الله أنزلها حجة لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء ولك على صدقك في نبوّتك.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وهذا اعتذار منهم بَيَّنُوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه فقالوا: {نُرِيدُ أَن نأكُلَ مِنْهَا}. يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها. والثاني: أنهم أرادوه تبركاً بها لا لحاجة دعتهم إليها، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال.
{وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبياً.
والثاني: تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لك أعواناً.
والثالث: تطمئن إلى أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا.
{وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} في أنك نبي إلينا، وذلك على الوجه الأول. وعلى الوجه الثاني: صدقتنا في أننا أعوان لك. وعلى الوجه الثالث: أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا. وفي قولهم {وَنَعْلَمَ} وجهان: أحدهما: أنه علم مستحدث لهم بهذه الآية بعد أن لم يكن، وهذا قول من زعم أن السؤال كان قبل استحكام المعرفة. والثاني: أنهم استزادوا بذلك علماً إلى علمهم ويقيناً إلى يقينهم، وهذا قول من زعم أن السؤال كان بعد التصديق والمعرفة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فلما خاطبهم عليه السلام بهذه المقالة صرحوا بالمذاهب التي حملتهم على طلب المائدة، فقالوا: نريد أن نأكل منها فنشرف في العالم، لأن هذا الأكل ليس الغرض منه شبع البطن. {وتطمئن قلوبنا} معناه يسكن فكرنا في أمرك بالمعاينة لأمر نازل من السماء بأعيننا {ونعلم} على الضرورة والمشاهدة أن قد صدقتنا فلا تعترضنا الشبه التي تعرض في علم الاستدلال. وبهذا يترجح قول من قال كان هذا قبل علمهم بآياته. ويدل أيضاً على ذلك أن وحي الله إليهم أن آمنوا إنما كان في صدر الأمر، وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمروا وصبروا. وهلك من كفر وقرأ سعيد بن جبير و«يعلم» بالياء مضمومة على ما لم يسم فاعله، وقولهم {ونكون عليها من الشاهدين} معناه من الشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرنا الداعين إلى هذا الشرع بسببها.
والمعنى: كأنهم لما طلبوا ذلك قال عيسى لهم: إنه قد تقدمت المعجزات الكثيرة فاتقوا الله في طلب هذه المعجزة بعد تقدم تلك المعجزات القاهرة، فأجابوا وقالوا إنا لا نطلب هذه المائدة لمجرد أن تكون معجزة بل لمجموع أمور كثيرة: أحدها: أنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاما آخر، وثانيها: أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة، وثالثها: أنا وإن علمنا بسائر المعجزات صدقك، ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان وتأكدت الطمأنينة. ورابعها: أن جميع تلك المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضية، وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم، فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين، نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، ونكون عليها من الشاهدين لله بكمال القدرة ولك بالنبوة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت المعجزات إنما تطلب لإيمان من لم يكن آمن، وكان في هذا الجواب أتم زجر لهم، تشوف السامع إلى جوابهم فقيل: لم ينتهوا بل {قالوا} إنا لا نريدها لأجل إزالة شك عندنا بل {نريد} مجموع أمور: {أن نأكل منها} فإنا جياع؛ ولما كان التقدير: فتحصل لنا بركتها، عطف عليه: {وتطمئن قلوبنا} أي بضم ما رأينا منها إلى ما سبق من معجزاتك من غير سؤالنا فيه {ونعلم} أي بعين اليقين وحقه أن قد صدقتنا} أي في كل ما أخبرتنا به {ونكون عليها} وأشاروا إلى عمومها بالتبعيض فقالوا: {من الشاهدين} أي شهادة رؤية مستعلية عليها بأنها وقعت، لا شهادة إيمان بأنها جائزة الوقوع
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن الحواريين كرروا الطلب، معلنين عن علته وأسبابه وما يرجون من ورائه: (قالوا: نريد أن نأكل منها، وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين). فهم يريدون أن يأكلوا من هذا الطعام الفريد الذي لا نظير له عند أهل الأرض. وتطمئن قلوبهم برؤية هذه الخارقة وهي تتحقق أمام أعينهم؛ ويستيقنوا أن عيسى عليه السلام قد صدقهم، ثم يكونوا شهودا لدى بقية قومهم على وقوع هذه المعجزة. وكلها أسباب كما قلنا تصور مستوى معينا دون مستوى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء طراز آخر بالموازنة مع هذا الطراز!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وتطمئنّ قلوبنا} أي بمشاهدة هذه المعجزة فإنّ الدليل الحسي أظهر في النفس، {ونعلم أن قد صدقتنا}، أي نعلم علم ضرورة لا علم استدلال فيحصل لهم العلمان.
وقال الحواريون ما جاء به القرآن الكريم: {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113)}. وكأنهم أرادوا أن يتشبهوا بسيدنا إبراهيم خليل الرحمن عندما سأل الله عن كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه. لقد آمنوا بعلم اليقين، ويريدون الآن الانتقال إلى عين اليقين؛ لذلك سألوا عن المائدة التي صارت بعد ذلك حقيقة واضحة. وهكذا نعرف أن هناك فارقا بين أن يؤمن الإنسان بذاته، وأن يشهد بالإيمان عند غيره. فالذي يشهد بالإيمان عند غيره يحتاج إلى يقين أعمق.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكنّهم سرعان ما أكّدوا للمسيح (عليه السلام) أن هدفهم بريء، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج، بل يريدون الأكل منها (مضافاً إلى الحالة النّورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته اثر مسلّم في روح الإنسان) (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين). فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإِلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.