اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡهَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (113)

أي : أكْلُ تبرُّكٍ ، لا أكْلُ حَاجَةٍ ، وقال الماوردِي{[12951]} : لأنَّهم لما احْتَاجُوا لم يُنْهَوا عن السُّؤال ، وقيل : أرَادُوا الأكْلَ للحَاجَةِ .

وقوله : " وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا " أي : إنَّا وإنْ عَلِمْنَا قُدْرةَ الله تعالى بالدَّليل ، ولكنَّا إن شاهدنا نُزُولَ هذه المَائِدة ازداد اليقين ، وقويت الطُّمَأنِينَةُ .

وقيل : المَعْنَى إنَّا وإن عَلِمْنَا صِدْقَكَ بِسَائِر المُعْجِزَات ، ولكن إذا شَاهَدْنَا هذه المُعْجِزَة ازدَادَ اليَقِينُ والعِرْفَان ، وهذا مَعْنَى قوله : { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } : أنَّك رَسُولُ اللَّهِ .

قيل : إنَّ عيسَى ابن مَرْيم أمَرَهُمْ أن يَصُومُوا ثلاثين يَوْماً ، فإذا أفْطَرُوا لا يَسْألُون الله شيئاً إلاَّ أعْطَاهُمْ ، ففعلوا وسألُوه المَائِدَةَ ، وقالوا : { نَعْلَمَ أن قَدْ صَدَقْتَنَا } في قولك : " إنَّا إذا صُمْنَا ثلاثين يَوْماً لا نَسْألُ الله شَيْئاً إلاَّ أعْطَانَا " .

وقيل : إنَّ جميعَ المُعْجِزَات التي أوْرَدْتَهَا كانت مُعْجَزَات أرْضِيَّة ، وهذه سَمَاوِيَّة ، وهي أعْجَبُ وأعْظَمُ ، { وَنَكُون عليها من الشَّاهدين } نَشْهَدُ عليها عِنْد الذين لم يَحْضُرُوها من بَنِي إسرائيل ، ويَكُونُوا شَاهِدِين لله تعالى بِكَمَال القُدْرَة .

وقرأ الجمهور : " وَنَعْلَمَ " : و " نَكُون " بنون المتكلم مبنيًّا للفاعل ، وقرأ{[12952]} ابن جُبَيْر - رضي الله عنه - فيما نقله عنه ابن عطيَّة - " وتُعْلَم " بضمِ التاء على أنه مبنيٌّ للمفعول ، والضميرُ عائدٌ على القلوب ، أي : وتُعْلَمَ قُلُوبُنَا ، ونُقِلَ عنه " وَنُعْلَمَ " بالنون مبنيًّا للمفعول ، وقرئ{[12953]} : " وَيُعْلَمَ " بالياء مبنيًّا للمفعول ، والقائمُ مقام الفاعل : { أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } أي : ويُعْلَمَ صِدْقُكَ لنا ، ولا يجوزُ أن يكُون الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضميرِ القلوبِ ؛ لأنه جارٍ مَجْرَى المؤنَّثِ المجازيِّ ، ولا يجوزُ تذكيرُ فِعْلِ ضميره ، وقرأ الأعمشُ : [ " وتَعْلَمَ " ] بتاءٍ والفعلُ مبنيٌّ للفاعل ، وهو ضمير القُلُوبِ ، ولا يجوزُ أن تكون التاءُ للخطاب ؛ لفسادِ المعنى ، وروي{[12954]} : " وتِعْلَمَ " بكسر حرف المضارعة ، والمعنى على ما تقدَّم ، وقُرِئ{[12955]} : " وتكونَ " بالتاء والضمير للقلوب .

و " أنْ " في { أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } مخفَّفةٌ ، واسمُها محذوفٌ ، و " قَدْ " فاصلةٌ ؛ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرِّفةٌ غيرُ دُعَاءٍ ، وقد عُرِفَ ذلك مما تقدَّم في قوله : { أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ، و " أنْ " وما بعدها سادَّةٌ مسدَّ المفعولَيْن ، أو مَسَدَّ الأول فقط ، والثاني محذوفٌ ، و " عَلَيْهَا " متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه " الشَّاهدين " ، ولا يتعلَّقُ بما بعده ؛ لأن " ألْ " لا يَعْمَلُ ما بعدها فيما قبلها عند الجمهور ، ومنْ يُجِيزُ ذلك يقول : " هو متعلِّقٌ بالشاهدينَ ، قُدِّم للفواصِل " . وأجاز الزمخشريُّ أن تكون " عَلَيْهَا " حالاً ؛ فإنه قال : " أو نَكُونَ من الشاهدينَ لله بالوحدانيَّة ، ولك بالنبوَّةِ عاكِفِينَ عليها ، على أن " عَلَيْهَا " في موضع الحال " فقوله " عَاكِفينَ " تفسيرُ معنًى ؛ لأنه لا يُضْمَرُ في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة . وقرأ اليمانيُّ{[12956]} : " وإنَّهُ " ب " إنَّ " المشدَّدة ، والضميرُ : إما للعيد ، وإما للإنزال .

وبهذا لا يَرِدُ عليه ما قاله أبو حيان - رحمه الله تعالى - فإنه غابَ عليه ذلك ، وجعله متناقِضاً ؛ من حيث إنه لَمَّا عَلَّقَهُ ب " عَاكِفِينَ " كان غيْرَ حال ؛ لأنه إذا كان حالاً ، تعلَّقَ بكون مُطْلَقٍ ولا أدْرِي ما معنى التناقُض .


[12951]:ينظر: تفسير القرطبي 6/236.
[12952]:ينظر: المحرر الوجيز 2/260، والبحر المحيط 4/59، والدر المصون 2/653.
[12953]:ينظر: البحر المحيط 4/59، والدر المصون 2/653.
[12954]:قرأ بها الأعمش كما في مختصر ابن خالويه 36، وينظر: التخريجات النحوية 268، والدر المصون 2/653.
[12955]:قرأ بها سنان وعيسى كما في البحر المحيط 4/59، وينظر: الدر المصون 2/653.
[12956]:ينظر: الشواذ 42.