ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان ما كان عليه الكافرون من كراهية للنبى صلى الله عليه وسلم ومن حقد عليه ، فقال - تعالى - : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ . وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } .
وقولهك { لَيُزْلِقُونَكَ } من الزَّلَق - بفتحتين - ، وهو تزحزح الإِنسان عن مكانه ، وقد يؤدى به هذا التزحزح إلى السقوط على الأرض ، يقال : زَلَقه يَزْلِقه ، و أزْلقه يُزْلِقه إزلافا ، إذا نحاه وأبعده عن مكانه ، واللام فيه للابتداء .
قال الشوكانى : قرأ الجمهور : { لَيُزْلِقُونَكَ } بضم الياء من أزلقه ، أى : أزل رجله . .
وقرأ نافع وأهل المدينة { لَيُزْلِقُونَكَ } - بفتح الياء - من زلق عن موضعه .
و { إن } هى المخففة من الثقيلة ، - واسمها ضمير الشأن محذوف ، و " لما " ظرفية منصوبة بيزلقونك . أو هى حرف ، وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه . أى : لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك . .
أى : وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك ، أو ليزلون قدمك عن موضعها ، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرا ، بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر ، وهو القرآن الكريم . .
{ وَيَقُولُونَ } على سبيل البغض لك { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أى : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن الأشخاض الذين ذهبت عقولهم . .
{ وَمَا هُوَ } أى : القرآن الذى أنزلناه عليك { إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أى : تذكير بالله - تعالى - وبدينه وبهداياته . . وشرف لهم وللعالمين جميعا .
وجاء قوله { يَكَادُ } بصيغة المضارع ، للإِشارة إلى استمرار ذلك فى المستقبل .
وجاء قوله { سَمِعُواْ } بصيغة الماضى ، لوقوعه مع { لما } وللإِشعار بأنهم قد حصل منهم هذا القول السَّيئ .
وجاء قوله { لَيُزْلِقُونَكَ } بلام التأكيد للإشعار بتصميم على هذه الكراهية ، وحرصهم عليها .
وقوله - سبحانه - : { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } رد على أكاذيبهم وإبطال لأقوالهم الزائفة ، حيث وصفوه صلى الله عليه وسلم بالجنون لأنه إذا ما كان ما جاء به شرف وموعظة وهداية وتذكير بالخير للناس . . لم يكن معقولا أن يكون مبلغة مجنونا .
ومنهم من فسر قوله - تعالى - { لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ . . . } أى : ليحدسونك عن طريق النظر الشديد بعيونهم . .
قال الإِمام ابن كثير : وقوله : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : { لَيُزْلِقُونَكَ } : لينقذونك بأبصارهم ، أى : لَيعَينوك بأبصارهم ، بمعنى ليحسدونك لبغضهم إياك ، لولا وقاية الله لك ، وحمايتك منهم .
وفى هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله - عز وجل - ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة .
ثم ساق - رحمه الله - جملة من الأحاديث فى هذا المعنى ، منها ما رواه أبو داود فى سننه ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا رقية إلا من عين أو حُمَه - أى : سم - ، أودم لا يرقأ " .
وروى الإمام مسلم فى صحيحه عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق ، ولو كان شئ سابَق القدر سَبَقَت العين " .
وعن ابن عباس - أيضا - قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين فيقول : " أعيذ كما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة - والهامة كل ذات سم يقتل - ، ومن كل عين لامة " " .
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق حتى لتورد الرجل القبر ، والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتى فى العين " .
وبعد : فهذا تفسير محرر لسورة " ن " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
وقوله : وَإنْ يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصَارِهِمْ يقول جلّ ثناؤه : وإن يكاد الذين كفروا يا محمد يَنْفُذونك بأبصارهم من شدة عداوتهم لك ويزيلونك فيرموا بك عند نظرهم إليك غيظا عليك . وقد قيل : إنه عُنِيَ بذلك : وإن يكان الذين كفروا مما عانوك بأبصارهم ليرمون بك يا محمد ، ويصرعونك ، كما تقول العرب : كاد فلان يصرعني بشدّة نظره إليّ قالوا : وإنما كانت قريش عانوا لمجنون ، فقال الله لنبيه عند ذلك : وإن يكاد الذين كفروا ليرمونك بأبصارهم لَمّا سَمِعُوا الذّكْرَ وَيَقُولُونَ إنّهُ لمَجْنُونٌ . وبنحو الذي قلنا في معنى لَيُزْلِقُونَكَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله : وَإنْ يكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَك بأبْصَارِهِم لَمّا سَمِعُوا الذّكْرَ يقول : يَنْفُذونك بأبصارهم من شدّة النظر ، يقول ابن عباس : يقال للسهم : زَهَق السهم أو زلق .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَيُزْلِقونَك بأبْصَارِهِمْ يقول : لَيَنْفُذونك بأبصارهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَإنْ يكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصَارِهِمْ يقول : ليزهقونك بأبصارهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا معاوية ، عن إبراهيم ، عن عبد الله أنه كان يقرأ : «وَإنْ يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْهِقُونَكَ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَيُزْلِقُونَكَ قال : لينفذونك بأبصارهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصَارِهِمْ قال : ليزهقونك ، وقال الكلبي ليصْرَعونك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنْ يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقونَكَ بأبْصَارِهِمْ لينفذونك بأبصارهم معاداة لكتاب الله ، ولذكر الله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإنْ يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصَارِهمْ يقول : يَنْفذونك بأبصارهم من العداوة والبغضاء .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله لَيُزْلِقُونَكَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة «لَيَزْلِقُونَكَ » بفتح الياء من زلقته أزلقه زَلْقا . وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة لَيُزْلِقُونَكَ بضم الياء من أزلقه يُزْلِقه .
والصواب من القول في ذلك عند أنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان في العرب متقاربتا المعنى والعرب تقول للذي يحلِق الرأس : قد أزلقه وزلقه ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله لمَا سَمِعُوا الذّكْرَ يقول : لما سمعوا كتاب الله يتلى وَيَقُولُونَ إنّهُ لَمَجْنُونٌ يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم إن محمدا لمجنون ، وهذا الذي جاءنا به من الهذيان الذي يَهْذِي به في جنونه وَما هُوَ إلاّ ذكْرٌ للْعَالمِينَ وما محمد إلا ذِكر ذَكّر الله به العالَمينِ الثقلين الجنّ والإنس .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما هو} يعني إن هو {إلا ذكر للعالمين} يعني ما القرآن إلا تذكرة للعالمين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
(وَما هُوَ إلاّ ذكْرٌ للْعَالمِينَ) وما محمد إلا ذِكر ذَكّر الله به العالَمينِ: الثقلين الجنّ والإنس...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما هو إلا ذكر للعالمين} جائز أن يكون، هو القرآن، وجائز أن يكون أريد به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ تقدم ذكرهما جميعا، إذ كل واحد منهما ذكر بذكر ما للخلق وما على الخلق، وما تنتهي إليه عواقبهم، وبذكر ما يؤتى وما يتقى، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: شرف للعالمين، كما قال تعالى {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف:44]
{وما هو} أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه {إلا ذكر للعالمين} فإنه تذكير لهم، وبيان لهم، وأدلة لهم، وتنبيه لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد، وفيه من الآداب والحكم، وسائر العلوم مالا حد له ولا حصر، فكيف يدعى من يتلوه مجنونا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان معنى قولهم هذا أن ما يقوله تخاليط من يصرع بالجن، أكد بقصر القلب قوله معجباً منهم {وما} أي والحال أن هذا القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ما {هو إلا ذكر} أي موعظة وشرف {للعالمين} أي كلهم عاليهم ودانيهم ليس منهم أحد إلا وهو يعلم أنه لا شيء يشبهه في جلالة معانيه وحلاوة ألفاظه وعظمة سبكه ودقة فهمه ورقة حواشيه وجزالة نظومه، ويفهم منه على حسب ما هيأه الله له ليناسب عموم ذكريته عموم الرسالة للمرسل به، وكل ما فيه من وعد ووعيد وأحكام ومواعظ شامل لهم كلهم، فوجبت التفرقة بين مسلمهم ومجرمهم لتصدق أقواله فيكمل جلاله وجماله فقد رجعت خاتمتها -كما ترى- على فاتحتها بالنون والقلم وما يسطرون من هذا الذكر، وسلب ما قالوا فيه من الجنون والإقسام على الخلق العظيم الذي هو هذا الذكر الحكيم، ونبه كونه ذكراً لجميع الخلق بما فيه من الوعد والوعيد على أنه لا بد من الحاقة وهي القيامة ليظهر فيها تأويله وإجماله وتفصيله، ويتضح غاية الاتضاح سبيله، وتحق فيها حقائقه وتظهر جلائله ودقائقه بما يقع من الحساب، ويتبين غاية البيان ويظهر الخطأ من الصواب -والله الهادي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يعقب عليه بالقول الفصل الذي ينهي كل قول: (وما هو إلا ذكر للعالمين). والذكر لا يقوله مجنون، ولا يحمله مجنون.. وصدق الله وكذب المفترون.. ولا بد قبل نهاية الحديث من لفتة إلى كلمة (للعالمين).. هنا والدعوة في مكة تقابل بذلك الجحود، ويقابل رسولها بتلك النظرات المسمومة المحمومة، ويرصد المشركون لحربها كل ما يملكون.. وهي في هذا الوقت المبكر، وفي هذا الضيق المستحكم، تعلن عن عالميتها. كما هي طبيعتها وحقيقتها. فلم تكن هذه الصفة جديدة عليها حين انتصرت في المدينة -كما يدعي المفترون اليوم- إنما كانت صفة مبكرة في أيام مكة الأولى. لأنها حقيقة ثابتة في صلب هذه الدعوة منذ نشأتها. كذلك أرادها الله. وكذلك اتجهت منذ أيامها الأولى. وكذلك تتجه إلى آخر الزمان. والله الذي أرادها كما أرادها هو صاحبها وراعيها. وهو المدافع عنها وحاميها. وهو الذي يتولى المعركة مع المكذبين. وليس على أصحابها إلا الصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد نجد في هذه الآية المكية التي أكدت على أن القرآن جاء ذكراً للعالمين، ردّاً على بعض المستشرقين الذين تحدثوا عن أن عالمية الرسالة لم تكن في وعي النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عندما كان في مكة، بل كانت حالةً طارئةً انطلق فيها وهو في المدينة بعد أن اتسعت انتصاراته، ما أدّى إلى اتساع طموحه في السيطرة على العالم. إن هذه الآية في هذه السورة المكية تؤكد من الناحية التاريخية أن المسألة كانت منطلقة في الوحي الإلهي منذ الأيام الأولى للدعوة، ولم تكن مسألة الحديث عن أنه ذكر للنبي ولقومه، أو إنذار أم القرى ومن حولها، ناشئةً من محدودية ساحة الدعوة، بل كانت ناشئةً من طبيعة الظروف الزمانية والمكانية التي كانت تفرض التدرّج في الدعوة، من أجل الوصول إلى الساحات الأخرى من موقع القوّة الممتدة في أكثر من مكان...
نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
هذا اللقاء الثالث هو مع الهدى المنهاجي في سورة القلم.
وكالعادة أقول في كل سورة: إن كتاب الله عز وجل لا يمكن بحال لأحد أيّاً كان، أن يستخرج منه كل ما ينبغي أن يُسْتخرَج. ولذلك فهذا ما تيسر بفضل الله سبحانه عز وجل، وهو مما في هذه السورة من الهدى المنهاجي. نسأل الله سبحانه عز وجل أن ينفعنا به، وينفعنا بكتابه وسنة نبيه.
ثم بعد ذلك أقول عن المستفادات:
الهدى الأول: من سُننِ الدّعواتِ، اتِّهامُ "الرّأْسِ "بما يصْرِف الناس عن دعْوته في البدايات. وأفضل سلاح للرّدِّ: الثّبات، والتخلُّق بأحْسن الأخلاق:
فالله تعالى يُبْرزُ في الآيات الأربع الأولى حُسْن خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: \(\ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)\)\.
وقبلُ في سورة العلق كان الله عز وجل يدافع عن رسوله صلى الله عليه وسلم تجاه طاغِية بعَيْنِه، فالسورة دفاعٌ عن عبد الله حين يُخْلِصُ عبادتَه لله عز وجل، فيكُون على الهدى، آمراً بالتقوى، ومتى كان عبدا لله تعالى، فالله عز وجل يتولاَّهُ ويُدافِع عنه.
أما هنا فالسورة متصدية للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه جمْعٍ من الطُّغاة، وليس تجاه واحد بعينه. بل العبارة شاملة للجميع، من أول السورة إلى آخر السورة تقريبا؛ لأن الذي يغلِب عليها هو التعبير بصيغة الجمع في من يُواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك يرشد إلى أن الله تعالى كما يكفي عبْدَهُ المؤمن شرَّ الطاغية الفرد يكفيه كذلك شرَّ الطغاة الجماعة، كُلُّ ذلك يتولاه الله عز وجل.
هذا إطار كبير للسورة يشملها بكاملها.
أما النقطة الأولى وهي الاتجاه للرأس.
فهو أنه فعلا في النظام العام لسَيْر الدعوات – والأسوة والقدوة هم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم مَنْ حمل أمانتَهم عبر التاريخ مقتديا بسيرتهم- دائما يكون التوجُّه إلى الرَّأسِ، وهذا الذي يُجَلِّي: لِم يَهتم نماذج من الطغاة في هذا العصر بالنُّشَطاء؟! لِمَ يهتمون بالرؤوس؟! لِمَ يهتمون بالذين يأمرون بالقسط من الناس؟! لأن قطْع الرأس يقضي على الدّعوة من جذورها، كما يُقال في المثل الدارج: "اقْطَع الرأس تنْقطِع الخصومة".
لكن التوجيه الذي يجب التزامه أمام هذه الظروف، وأمام هذا الحال، هو الثَّبَاتُ على الحق أولاً. هذه نقطة أساسية، حَذَارِ حَذَارِ من التولِّي، الثباتُ على الحق أقوى سلاح يتحَدَّى به الرُّسُلُ وأتباعُهم خُصومَ الدّعوة.
ثم بعد ذلك التخلُّق بأحسن الأخلاق، لمَهْ؟! لأن رسالة الدّعوة تزكيةُ الإنسان وتحسينُ أخلاقه، فإذا وجد الشيطان مدخلاً، أو ثقْباً ينْفُذُ منه، فإنه سيوسع الفَتْق لتشويه الدّعوة. ولذلك كان الخُلُق الحسن بالنسبة للداعي إلى الله عز وجل هو السلاح الحقيقي الذي به يُواجِه كل هجوم، وكل تهمة كيفما كان نوعها، ولا يُسْتَطاعُ أن يُنْفَذَ إليه مهما أُلْصِق به من الأكاذيب ومن الافتراءات ومن الترهات؛ لأن كيانَهُ له مناعَةٌ خُلُقية تحميه تلقائيا من كل ذلك.
والله عز وجل يختارُ من عباده من البداية -ولاسيما من الأنبياء والرسل- ذوي الخُلُق الحسن المؤهلين لحمل أمانة الدِّين.
فاختيار النماذج الرفيعة خلقاً للدّعوة، هو من أول الهدى الذي يواجهنا في السورة؛ إذ فواتح سورة القلم من أول ما نزل، وحسب الحديث الحسن المرتب لنزول القرآن، هي ثاني ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا منسجم تماما، إذا تأملنا العلاقة بين مضمون هذه الآيات الأربع، ومضمون الآيات الخمس الأولى من سورة العلق. معنى هذا الكلام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُشْهد له هنا بأنه على خلق عظيم، معناه أنه كان على خُلُقٍ عظيم في بداية الدعوة، وهذا يوجِّه إلى أن هذه النماذج البشرية الرفيعة ذات الخلق الحسن هي التي يجب أن تُختَار وأن تُصطفى؛ لأنها تكون -في الوسط الذي تعيش فيه- في وضع المحبوب، في وضع المطلوب، في وضع الشَّامَة، في وضع النموذج حتى قبل أن تحمل أمانة الدين. هذه النقطة مهمة جدا.
ثم إن المفسرين عادة ما يتجهون في فهم هذه الآية إلى الحديث المشهور: سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان خلقه القرآن". هذا الحديث ورد متأخراً، وهذه الآية نزلت قبل أن ينزل القرآن بكامله، بل نزلت قبل أن ينزل أغلبُه. آيات قليلة فقط، ومع ذلك شَهِدَ الله عز وجل لرسوله بهذا الخُلُق.
واستعمل لفظة {على} للدلالة على التمكن، كما استعملها قبل في {على الهُدى}: \(\أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى\)\ \(\وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ\)\. فهو هناك في سورة العلق متمكنٌ من الهدى، وهُو ها هنا أيضا متمكنٌ من الخلق، وليس خلقا كريما عاديا، بل خلقٌ عظيمٌ، إشارة إلى عدم محْدُودية هذا الخلق، وتحجيمه في جانب كذا أو جانب كذا. ونظير هذا "على بصيرة" في قول الله تعالى: \(\قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي\)\ [يوسف: 108].
فالرسول –صلى الله عليه وسلم- كان على الهدى، وعلى خلق عظيم، وعلى بصيرة من أمر الدين، وأمر الدّعوة، وأمر التربية للأتباع. فعلى ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكونوا متمكنين أيضا من كل ذلك، وأن يتسلحوا بما تسلح به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجميع من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم طريق واحد، هو الدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة. والمنتظر- ولاسيما في البدايات- أن يصيبهم ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليهم أن يتسلحوا بما تسلح به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتحصنوا من منافذ الشيطان.
الهدى الثاني: الحلُّ في المستقبل. والله تعالى الأعلم بالأهدى والأضل:
\(\فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)\)\.
في الآيات إشارة توجيهية إلى تكفل المستقبل بالحلِّ. أي إن الزمن جزء من العلاج.
فستبصر ويبصرون. متى؟ يوم القيامة؟!. الكلام أساسا في هذه الدنيا، سيقع هذا الأمر في الدنيا، سيتجَلّى للناس كما يقول الله تعالى في آية أخرى: \(\وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ\)\ (الأنعام: 55). سيتّضِح الأمر بجلاء. سيُبْصِر النّاس جميعا: الذين يكذبون بالدين، والذين يعارضون الدعوة إلى الله عز وجل، إذا ثَبَتَ رِجَالُها، إذا صبرَ أهْلُها، سيأتي الوقت الذي يميِّز الله فيه الحق من الباطل، ويتميز الخبيث من الطيب، ويتضح كل شيء. آنذاك \(\فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ\)\ لستَ وحْدك ستبصر، ولكن: فستُبصر أنت، وسَيُبْصرُون هم كذلك \(\بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ\)\ بِأيّكم تكون الفِتنة للنّاسِ؟! من هو الذي يَفْتنُ الناس عمليّاً؟ من؟.
لفظ المفتون جاء على صيغة اسم (مفعول)، ولكنّ معْناه معْنَى المصْدَر كما قال بعض المفسرين، وهو الأفضل في المعْنى، كأنه بمَعْنَى (بأَيِّكُم الفِتْنة)، (بأيِّكم تكون الفتنة للناس). وإذا تركنا اللفظ على ما هو عليه يقْبَلُ أن يُفْهم منه المراد على ما هو عليه. \(\بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ\)\ المفتونُ بأيكم هو؟! المفتون الذي سيُفْتَن، الذي تصيبُه الفتنة، الذي يصبح مفتوناً، بأيكم سيكون؟! هل هو بهذا أم بغيره؟! فسيُبْصَر هذا، سيُصْبح واضحاً، مَنِ الفتّانُ حقيقة؟!.
فخلاصة هذه النقطة هي أن المستقبل فيه الحل.
فيجب الثباتُ والانتظار. هذا معنى الكلام.
فالزمن، كما قيل، جزء من العلاج.
فقط ينبغي الصبر والاستمرار. الثبات والاستمرار، هذه هي النقطة، كل الأمور تُبْني على هذه النقطة التي جَلَّتْها الآيات في جهة أخرى \(\وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ\)\ [السجدة: 24].
إذا كان اليقين بما جاء من عند الله عز وجل، ثم كان الصبر عليه، والثبات عليه، كل النتائج بعد ذلك تأتي في إبّانها.
لكن إذا وقع اضطراب، إذا وقع اهتزاز، إذا وقع نكوص... إذ ذاك تتخَلَّف النتائج وتأتي العقوبات، بدَلَ أن تَأتي البشائر والنتائج السارة.
فإذن المقصود هُنا هو أن الزَّمَن له تأثير، والمسقبل كشّاف، والحلّ يأتي مع الزمن، فيجب الصبر. والصبر أنواعٌ منها: انتظار الفرج، بعد تحمُّل جميع ما يمكن أن يأتي في الطريق، سواء كان ذلك اختيارا أم اضطراراً، فهذه نقطة مهمة جداً أنّ في المستقبل الحل، وأن الزَّمن جُزْءٌ من العلاج.
الهدى الثالث: لا طَاعَة لمكذِّبٍ بالدِّين ولا قبول لمساومته، ولا طاعة لمن كان ذا خُلُقٍ لئيم أثيم:
هذا القسم هو الذي يقول الله تعالى فيه: \(\فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)\)\.
في السورة السابقة (العلق) كان الختم \(\كلاّ لاَ تُطِعْهُ\)\ وها هنا \(\فلاَ تُطع المكذبين ولا تُطِع كل حلاف مهِين\)\.
إذن الذين يكذِّبون بالدين، الذين يكذّبون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين يُكذِّبون بالقرآن، الذين يكذِّبون بما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذِين يُكَذِّبون باليوم الآخر، الذين يصُدُّون عن طريق الله، هؤلاء جميعاً وأمثالهم لا طاعَةَ لهُم من أهْلِ اللّه وأوْلِياء الله، ولا قبول لمساومتهم.
إذ حقيقة الدعوة: أنّها تقوم على مبادئ ثابتة راسخة لا تقبل المساومة.
فلا مجال لمثل هذا الاقتراح: نعْبُد إلهك شهراً وتعْبُد إلهنَا شهراً. لا مجَالَ البتَّة.
ما جاء من عند الله هو الحق، ولا مجال للمساومة عليه، \(\فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ\)\ [الزخرف: 43]. ما جاء من عند الله عز وجل يجب الاستمساك به، يجب العَضّ عليه بالنواجذ، يجب قبضُه كالجَمْرِ وإن كان مُحْرقاً، وإن كان مؤلماً، وإن كان صعباً، وإن كان شَاقّاً، كيفما كان نوعه يجب الثبات عليه.
هذه نقطةٌ لا تقبل الكلام، في السيرة، ولا في القرآن. والسيرةُ ما هي إلا صَدًى لكتاب الله عز وجل في الواقع.
المؤمن كما نقول اليوم صاحب مبدأ، والداعية مبدئي أيضاً، أيْ هناك أشياء لا مفاوضة فيها، ولا مساومة عليها، ولهذا كانت هذه السورة \(\قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)\)\.
طريقان منفصلان غير قابليْن للالتقاء، بمعنى: نعم للحوار وعلى الرَّحْبِ والسَّعَة، لكن لا تنازُلَ أثْناء الحوار عن أيِّ مبدأ من مبادئ الدِّين الأساسِيَّة القَطْعِيّة الصحِيحَة المفْرُوغِ مِنها، لا تنازل عن شيء من ذلك.
فهذه نقطة مهِمّة جدا، لا قبول للمساومة، ولا طاعة لمكذب بالدين، ولا لمن كان ذا خُلُق لئيم، ولا لمعتد أثيم.
الطاعة فقط لمن له الأهلية للطاعة، أي لمن أمر الله تعالى بطاعته؛ لأن الطاعة في أصلها لله، وإنما أطيع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لأنه رسول الله، واللّه أمر بطاعته: \(\وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا\)\ [الحشر: 7] \(\يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ\)\ [النساء: 59]، وأمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يطاعون بأمر الرسول، وأولو الأمر إنما تجب طاعتهم بأمر الله، ماداموا آمرين بطاعة الله عز وجل؛ إذْ القَاعِدة الكُلّية الضخمة في هذا الدين هي أنْ "لا طَاعَة لمخلوق في معْصية الخالق". فلذلك كان هذا الأمر من أوائل ما رُتِّب وسُطِّر ليسْتَقِرّ \(\فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11)\)\ يعني ذا الأخلاق السيئة المنافية للشريعة وللدِّين، لا يُطاع بوجهٍ، فليس أهلاً ولا صالحا للطاعة.
الهدى الرابع: من أسباب التّكذيب القوة المالية والبشرية:
القوة المالية والعسكرية بتعبير اليوم هي السبب. الله عز وجل قال: \(\أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ\)\، أي بسبب أَنْ كان ذا مال وبنين، إذا تُتلى عليه آياتنا قال: \(\أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ\)\، أي خرافات الناس السابقين.
المال قوته معروفة، فهو يرمز اليوم للقوة الاقتصادية، أما البنون فهم رمز للقوة البشرية، وهم رمز للقوة العسكرية اليوم، ومن اجتمعت عنده القوة الاقتصادية والعسكرية توفرت له أسباب الطغيان، يَظْلِم ولا يُظلَم، ويُذل ولا يُذَل، يخْضع الناس لحُكمه، ولا يَخضع لحكم أحدٍ، بل لا يخضع لحُكم الله \(\الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا\)\ \(\أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ\)\. وقد سبق في سورة العلق \(\إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى\)\.
فرعون من هاهُنا أتِي، فراعِنَة العصْر من هاهنا أُتُوا. الجميع في كل زمان وفي كل مكان يطغى بسبب القوة الاقتصادية والعسكرية العمياء \(\أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ\)\.
الهدى الخامس: نعمة الدّين، وهي أعظم النعم، بلاء؛ فمن كفَرَها فقد ظلم وطغى وعرَّضَ نفسه للعذاب الأصغر في الدنيا والأكبر في الآخرة:
هذه خلاصة هذا القسم الخاص بأصحاب الجنة، لماذا جيء بهذه الآية هنا \(\إنّا بلوْناهُم\)\ أي بلوْنا هؤلاء المكذبين من قريش وغيرها كما بلونا أصحاب الجنة.
إذا تأملنا في قصة أصحاب الجنة، وربطناها بما سبق، ورأينا أولئك الذين سبقوا، وجدنا أن الإشكال هو: كفران نعمة الوحي، ونعمة الإيمان، ونعمة القرآن بالتحديد؛ لأن لفظة النعمة في بداية نزول القرآن الكريم، كانت تنصرف بالدرجة الأولى إلى القرآن الكريم: \(\وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ\)\ \(َا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ\)\وهي هي التي تمَّت بعْدُ \(\الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي\)\ [المائدة: 4]. نعمة القرآن تمت وانتهت، وانتهى نزُول القرآن، وهي بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تستلزم النبوة والرسالة والإيمان وكُل شيء.
هذا القرآن، هو الذي به كان كُلُّ ما كان، كل ما كان، حتى ما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالقرآن.
الذي نقله مما كان عليه إلى ما صار إليه هو القرآن. أربعون سنة وهو يَعِيشُ كَبقية الناس من خير الناس، ولكن بنزول القرآن، لم يبق ذلك الإنسان الذي كان يعْرفُه الناس، ولذلك اتّهِم بالجنون، واتهم بالكهانة، واتهم بالسحر، واتُّهِم بالشعر. أي اتُّهِم بالعجائب والغرائب؛ لأنه جاء الناس بشيء لم يأْلَفُوه ولم يعْهَدُوه، جاء بشيء ليس في طاقة البشر.
فنعمة الدين هي النعمة الحقيقية التي تستحق لفظ النعمة أكْثر مما سواها.
هذه النعمة نفسها بلاء من الله، والله يبتلي بالخير وبالشر \(\وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً\)\ [الأنبياء: 35]. والله ابتلى قريشا إذ ذاك بنعمة القرآن، بنعمة الدين، ولكنهم كفروا، والله عز وجل يهدِّدُهم ويخوِّفُهم من جهة، ويتألَّفُهم من جهة أخرى؛ ليعودُوا كما عادَ أصْحابُ الجنة في الأخير، وليتُوبُوا. فلْيتُوبُوا، ولْيعْترفُوا بالحقّ، ولْيَعُودوا إلى الله عز وجل.
نحن -المسلمين اليوم- عنْدَنا هذه النعمة موجودة، هي بين أيدينا، نعمة القرآن ليْست إلا عندنا، وهي بلاءُ من الله عز وجل لنا، فإذا شكرناها وأدينا حقها فإن النعم الأخرى ستتوالى تتْرى، ولكن إذا لم نؤد شكرها، ولا يكون أداء الشكر إلا بالإيمان والعمل بها، فسيصيبنا ما أصابهم أو شرٌّ من ذلك.
\(\قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)\)\.
فهذه النقطة لابُدّ من وضْعِها في الاعتبار. لابُدّ أن نُحسَّ بقيمة هذه النعمة وأهميتها.
الهدى السادس: المساكِينُ محْمِيُّون من قبل اللّه عز وجل، فمن حرَمَهُم من حقِّهم فِيما عِنْدَه، حرمَه الله من كُلِّ ما عِنْده:
كان خالد بن صفوان يقول: "اتّقُوا مجَانِيق الضّعفاء". يعني: دعاءهم. المنجنيق كأنه المدفع بالنسبة للعصر الماضي، يأخذ الحجر الضخم ويرمي به فيكسر الحائط والجدران والبيوت وغير ذلك، المنجنيق: جمعه مجانيق، ومجانيق الضعفاء الدعوات؛ لأنهم لا يستطيعون الرد العملي، ولكن يتوجهون إلى الله عز وجل واللّه معهُم، وكلُّ مسْلُوب الحق هو ضعيف، والضعيف لا سند له إلا الله تعالى.
أصحاب الجنة اجتهدوا بكل طاقتهم أن يمنعوا وصول أي قدر من حصيلتهم إلى المساكين، اجتهدوا بكل سبيل، ولكن الله عز وجل كان من ورائهم محيطاً فعاقبهم؛ لأنهم أرادوا حرمان المساكين من حقوقهم في مال الأغنياء، فالله عز وجل عاقبهم بحرمانهم من جميع مالهم \(\فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ\)\، كالمقطوفة الثمر، لم يبق فيها شيء.\(\إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ\)\. وكان ذلك مع غَيْظٍ، لأن الحرْدَ كما في الآية بعدها \(\وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ\)\. هو المنْعُ مع الغَضَب. هكذا تآمَرُوا، هكذا اتَّفقُوا وتواطأُوا \(\لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ\)\.
\(\فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)\)\ هكذا ظنّوا \(\فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)\)\
عندما رأوْها على الشكل الذي رأوا، ظنوا أنهم قد أخطأوا الطريق، ثم أفاقوا من ذهولهم وفهِمُوا ما حَدَث، فهِمُوا وعلِمُوا أنهم قد حُرمُوا من جميع ثمار الجنة، بسَبَب إصْرارهم على أن يحْرموا المساكين من حقوقهم.
إنّ حُقُوق المساكين هي حُقوق اللّه \(\كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ\)\.
مسألة المسكين في ميزان الله تعالى شيء عظيم. المساكين محميُّون من قِبل الله تعالى، ومَن حرَمهم من حقِّهم فيما عنده، حرمه الله تعالى من كل ما عنده.
والمصائب التي نعيشها ونحياها الآن في الأمة جمعاء، من أسبابها الكبرى ضياع حقوق المساكين.
انهَدَم ركن الزكاة على صعيد الفرد والمجتمع، وعلى صعيد الجمع والصّرْف، فضاعت حقوق المساكين، وحدثت المشاكل، ورأينا العجائب من أشكال البطالة، وأشكال البلاء، مع أن هذا الركن وحْده إذا أقيم في بلد من بلاد المسلمين فسيُصْبح البلدُ غنيا في سنوات، لأن ملايير وملايير ستتوفَّرُ بسرعة مذهلة، يمكن أن تؤسس مؤسسات إنتاجية ضخمة، ستنشأ معامل تشغل آلاف العمال، ستنشأ مؤسسات استثمارية، ومشاريع تنمويّة بأموال الزكاة تُمَلَّك للفقراء، ويشغَّل فيها الفقراء، وبذلك تدُورُ عجَلة الاقتصاد.
إذا نُظِّم أمرُ الزكاة، ولاسيما إذا أدخلنا أيضاً الأبناك نفسَها على أنها مؤسسات مالية، يجب أن تؤدي الزكاة على الأموال المودعَة عندها، حسب اجتهاد بعض العلماء.
إذا حدث ذلك وغيرُه، كم نأخُذ من أموال الزكاة؟! وكم نؤسس من مشاريع؟! وكم ننفع من مساكين؟! وكم نُنْقِذ من أُسَر؟!
الهدى السابع: التّسْبِيح والتوبةُ النّصُوحُ، هما طوق النجاة عند حلول البلاء:
إذا وقعْنا في خطأ، فالتسبيح والتوبة النصوح هما طوق النجاة. وأصحاب الجنة تيقّنوا أنهم قد حُرِمُوا. فما المخرج؟ إذا ما استمروا على ما هم عليه، فإن هذا الحرمان سيتوَالى \(\قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28)\)\ سبِّحوا الله تعالى.
وكان ذلك أول أدب من الملائكة مع الله عز وجل حين قَالُوا له: \(\أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)\)\ [البقرة: 29- 31].
فأولا التسبيح: تنزيه الله تعالى عن الخطأ، تنزيه الله تعالى عن النقص، تنزيه الله تعالى عن أن يكون هذا مِنْه فيه ظُلْم بشكْلٍ من الأشكال، أو خَطإ. \(\قالوا سبحن ربنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ\)\
ثم التوبة النصوح: العوْد والرجوع إلى الصراط المستقيم، إلى الوضع الصحيح. ندِمُوا وتابُوا، شعَرُوا بالمشكلة فقالوا:\(\قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)\)\ رجعوا إلى الله، سبّحُوا الله، واعْترفُوا بخطئهم وتابوا. فالتّسبِيح والتوبَة النّصُوح هما طَوْق النجاة عند حلول البلاء.
الهدى الثامن: الإسلامُ سلامٌ والكُفْرُ إجْرامٌ، ولا مساواة بين المسلمين والمجرمين في ميزان الله تعالى:
مصطلح "المجرمين" في غاية الأهمية ولا نلتفت إليه، والقرآن يستعمله كثيرا، وسيأتينا في القرآن المكي كثيراً: \(\أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ\)ُقَابَلةُ المسلمين بالمجرمين يصحح أكبر اعوجاج في الفهم اليوم. المسلم لا يكون مجرما بحال، المسلم مشتق من السِّلْم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وفي رواية أخرى: "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده"، وهذه هي التي تنْسَجِم مع الخط العام للإسلام، ولا تضاد بين الروايتين؛ بل بينهما تكامل.
المسلم مصدرٌ للخير، مصدرٌ لما يُحقِّقُ السِّلم في الأرض، وفي الكَوْن. هو مصدر لكل أنواع الخير؛ لأنّه أسس حياته من أول مرَّة على الحق، على السير على هدى الله عز وجل، والله عز وجل ضمن حقُوق الجميع؛ حقوق بني آدم، حقوق الحيوانات، حقوق النباتات، حقوق ما نرَى، وحُقوق ما لا نرى، ضمِن حقوق الملائكة، وضمِن حقُوق الجن، كُلُّ ذلك مضمون عند الله عز وجل، وإذا سار الإنسان في حياته وفْقَ هُدَى الله، فإنه يُسدَّدُ بإذن الله عز وجل، ويُكْفى همَّه كُلّه في هذه الدنيا.
فالإسلام سلامٌ، والكُفْر إجرام.
لم كان الكُفْر إجراماً؟! لأن أوّل جريمة ضخمة لا مثيل لها، هي "أن تجعل لله نِداً، وهو خلقك" كما قال صلى الله عليه وسلم.
أو تتصوَّرُ بدلاً منه سبحانه وتعالى \(\ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ\)\ [الأنعام: 2].
لذلك فـ\(\إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ\)\ [لقمان: 12].
الحقيقة الجلية في هذا الكون، والتي ما مِثلُها في جلائها، هي: أن (لا إله إلا الله). هذه الحقيقة جلية إلى حد: أن الشمس تدل عليها، والقمر يدلّ عليها، والأرض تدل عليها، والأشجار تدل عليها، والأنهار تدل عليها، والجبال تدل عليها، والأسماك والأطيار والحيوانات ونحن بني آدم، وكل ما نرى... كل ذلك يدل على أن: (لا إله إلا الله).
يوجد خالقٌ واحدٌ، رازقُ واحد، مُدَبِّر للملك واحد، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، \(\لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا\)\ [الأنبياء: 22] \(\أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ\)\ [الأعراف: 53].
الكفر إجرام لأنه يُفْسِدُ كل شيء.
لأنه من البداية حين يضيع من الكافر المفتاح الأصْلُ الذي: هو لا إله إلا الله، يضيع منه كل تصرُّف صحيح في هذا الملك، ولذلك كان \(\الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ\)\ [إبراهيم: 21]، أو \(\كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ\)\ [النور: 38].
لاشيء، جمِيع ما يصْنَعُ مُصيبةٌ \(\قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا\)\ [الكهف: 99].
لا إحسان في الصنع إلا بميزان الله، ولا سعادة ولا حياة إلا بهُدَى الله، ولا يستطيع الكفار أن يحسنوا التصرُّف في نعْمة من نّعم الله. لا يستطيعون.
والذي نراه الآن، ونحن نظن أنه إحسانٌ، لَيس بإحسان. العالم لن يستقِر على هذا الوضع أبداً. إنهم يفسدون بإحسان: نعمة العلم يُفسدون بها، نعمة القوة يُفسدون بها، كل نعمة يُفسدون بها في الأرض.
نحن نقول: هُمْ خيرٌ منَّا في عدد من الأشياء.
لأننا نحن أيضا لا نمثِّلُ الإسلام، نحن لا نمثل الآن الإسلام. أقصد بـ (نَحْنُ): نحن المسلمين في العالم، لا نمثل الإسلام؛ لأننا لو مثلناه حقيقة لاستحال أن يكون الكفار أعلى درجَةٍ منا في الأرض أبدا \(\وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً\)\ [النساء: 140] والآن لهم علينا ألف سبيل وسبيل. فإذن لا يخلو: إما أن الله يقول الحق أوْ لا يقول الحق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. \(\وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا\)\ \(\وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً\)\.
إذن هناك إشكال؛ من أراد أن يعرف المنْكر ودركات المنكر الذي نحن فيه في العالم الإسلامي فلْيَقْرأ القرآن، ولْيَزن واقعنا بالقرآن.
لينظره فقط من خلال ما وصف الله به المؤمنين، وما وعد به المؤمنين.
حين لا يجد ذلك واقعا، ويَجِدُ عكسه، يتيقّن أن الله عز وجل لا يظلم أحداً \(\وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ\)\ [فصلت: 45]. فما دامت هذه الأمور ليست موجودة، فسببها الذي كان ينبغي أن تترتّبَ عليه غَيْر موجُود.
كيف يُتَصَوّر أن الذين ضرب الله عليهم الذّلّة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، لهم الكلِمَة العُلْيا على المسلمين.
لا يُتَصوّر إلاّ بغَضب من الله عز وجل على المسلمين أعْظم، فابْتلاهُم بالمغضوب عليهم منه. على قاعدة أن الأحقر هو الذي حقر بأحقر منه.
فهذا تأديب من الله عز وجل لنا. إذا نظرْنا إلى المآل، نرى أن هذا فيه خير إن شاء الله عز وجل، في هذا خيرٌ عظيم للمسلمين، بمعنى أن الذي سيثبت على الحق سيأخذ أجرا عظيما. إذا حَيِيَ فسَيَحْيى في خير، وإذا مات فسيموت في خير.
فإذن الإسلام سلام والكُفْر إجرام، ولا مساواة بين المسلمين والمجرمين في ميزان الله تعالى، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
الهدى التاسع: ظنون المجرمين بربهم سَـرابٌ، ستنكشف بعد فوات الأوان يوم الحِساب:
\(\يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)\)\.
الهدى العاشر: لا داعي لبخع النّفس على المكذبين، فالله يتولاهم بكيده المتين:
بمعنى أن لا داعي للحسرة الشديدة، ولا داعي للأسف الشديد على من كذّب بالدين؟! لا داعي لذلك كله، فالله يتولاّهم بكيْده المتين، استدراجا وإملاء. \(\فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ\)\. الله عز وجل يتولى ذلك بنفسه استدراجاً وإملاءً.
الهدى الحادي عشر: الدُّعـاة هُـداةٌ لا جباة. ولذلك لا يجوز طلب أجر من مدْعوٍّ قبل إسلامه (فإن أسلم طولب بحق الإسلام):
الدعاة هداة لا جباة، ذلك بأن الدعوة إلى الله عز وجل ليس عليها أجْرٌ إلا مِن الله عز وجل. \(\قُل لا أسْألُكم عليه أجراً إنْ أجْرِيَ إلاَّ علَى الذِي فَطَرَنِي\)\ هكذا جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام \(\أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ\)\ أهذا هو السبب؟!
يكذبون لأنك تطالبهم بأجر على ما تصنع، وهم يصْعُب عليهم هذا الأجر لغلظه، فهُم مُثْقلون بالذي تطلب منهم.
هذا استفهام إنكاري. لا شيء من ذلك هو السبب.
فالدعاة هُداةٌ لا جُباة، ولذلك لا يجوزُ طلب أجْرٍ من مدعُوٍّ قبل إسلامه، بل قد يُعطى المال ليُتألَّف قلبُه. وقد أعطى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعض رؤساء العرب في أوقات بعينها نحو ألف ناقة تألّفاً له؛ لأنه إذا أسلم أسلمت معه قبِيلَتُهُ.
الهدى الثاني عشر: من اختاره الله تعالى لهداية خَلْقِه، فــلاَ يجُوزُ له مُغَـادَرَةُ موْقِعِه، ويجب عليه الصّبْر لحكم ربه:
من اختاره الله عز وجل لموقع من مواقع الخير، فليعْلم أن الله تعالى اختاره، وليس بجهده كان في الخير، وذلك بدْءاً من الرّسل عليهم الصلاة والسلام، فالله عز وجل هو الذي اختارهم للرسالة، وهو الذي اختار أتباعهم \(\وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ\)\ [الحج: 76] هو اجتباكم واختاركم، اختارنا بفضله سبحانه عز وجل لنكون من أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-، ونكُون من الأمة التي كُلِّفت بالشهادة على غيرها، وكُلّفت بتبليغ ما كان يبلغه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، هذا في حد ذاته اختيارٌ من الله عظيم، لا حول لنا فيه ولا طَوْل، هو محض فضل من الله سبحانه عز وجل.
كُلُّ عَبْدٍ وجدَ نفْسَهُ في الخير، فليعلم أن الله قد اختاره. المؤمنون اختارهم الله جل جلاله ومنحهم الإيمان، لكن إذا اختارهم فلا ينبغي، ولا يجوز، ولا يصح منهم، ولا يصح لهم أن يغادروا ذلك الموْقِع، مهما كانت الصعوبات فعليهم أن يصْبِروا \(\فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ\)\.
هذا التوجيه في قصة سيدنا يونس عليه السلام \(\فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ\)\لأنه ما صبَر لحُكْم ربّه، كلَّفَهُ الله تعالى بأن يبلغ لقومه، فما استجابوا، فتعِب منهم وضَجِر: دعا إلى الله، ثم دعا، ثم دعا، فما استجابوا، فقنط، وركِب السفينة كما تعلمون \(\فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ\)\ [الصافات: 141-142] أي أتى ما يُلامُ عليه.
إنه مُغادرتُه موقع الدّعوة إلى الله في قومه.
الله أرسله إلى هؤلاء، فلْيقف عند هؤلاء. لا مُغادَرَة للموْقع.
ويجِبُ الصّبْرُ على حُكم الله، وذاك من حُكْم الله، كما قال عز وجل لموسى \(\فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ\)\ [الأعراف: 144].
الهدى الثالث عشر: لا تَضِقْ أيّها الدّاعي إلى الله تعالى بنظرة الكُفّار إليك، ولا تضِق بتهمتهم لك، واعلم أن رسالتك عالميّةٌ:
هذه السورة خُتمت بقوله تعالى \(\وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)\)\.
في البداية كان \(َا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)\)\ وفي الختْم كان \(\وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52)\)\.
تصوّرْ رسول الله في هذه المرحلة، والقرآن في البداية، والدعوة في البداية، ومع ذلك الأفق يُفْتحُ على المُسْتوى العالمي \(\وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ\)\!!!
أقول: عادة الإنسان عندما يرى نظرة الكفار إليه، أو نظرة الصادِّين المحادين لله عز وجل إليه، يصيبه ضيق عظيم. والمقصود هنا بالنظرة: الموقِف كما يقولون اليوم، أي من خلال موقفهم العنيد قد يُشهِّرون، قد يكتُبُون، قد يقُومون بأفعالٍ، قد يكيدون، قد يتآمرون. أي لا يرْضون عنه، لا يُعْجبهم أمْرُه، يقولون فيه قولا، ينظرون إليه نظراً شَزراً، يحاصِرُونه...
كل هذا لا ينبغي أن يَلْتفِت إليه، ولا أن يضيق به. ومهما اتّهَمُوا فلا تضق بالتّهم.
هذا التوجيه الذي يعطى لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- هو التوجيه الذي يعطى لكل مُبلِّغ عن الله عز وجل، في أي زمان وفي أي مكان.
لا تضِق من نظرة الكفار إليك، مهْما كانت النظرة شديدة الحنق والحِقد، فالكفار كما صوّرهم الله تعالى من شدة غيظهم يكادُون يسقطون رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى الأرض بنظرهم الذي يتطاير منه الشرر \(\وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ\)\.
خـلاصة الهدى في السورة ثلاثة أمور:
أولا: دين الله تعالى، لمن أوتيه، نعمة ربانية عظمى، يجب شُكْرُها، بالتحقق والتخلق بها، والثبات عليها.
هذا الهدى الواضح من أول السورة إلى آخرها، ولاسيما في القسم الأول من السورة، إذ يجليه أكثر من سواه. لكنه ممتد إلى نهاية السورة \(\فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ...\)\.
الآن مع رسول الله، وبعده مَعَ أي مسلم، أو جماعة مسلمة، المهم الدين. لابد من الدين. الدين خُلُق. الدين لباس يجب أن يُلْبس \(\وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ\)\ [الأعراف: 25].
الدين ليس كلاما. الدين فعل. الدين خلُق حسن يتخلق به العبد، وما لم يظهر الدين خُلقا فلن تكون دعوة، ولن يكون شكر، ولن يكون نصر، ولن، ولن...
ثانيا: الله جل جلاله يتولى أمر المجرمين المكذبين بالدين بكيده المتين، وعذابه المهين، دفاعا عن عباده المسلمين \(\أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ\)\ [القلم: 35].
بمعنى أن الجبهة المعارضة المخالفة للدين، اللهُ يتولى أمرها حين يكون المسلمون قليلين ضعافا، كأن الله عز وجل يقول لرسوله –صلى الله عليه وسلم-، ولكل مؤمن ومؤمنة من بعده: أنا أكفيك همّ سواك، أنت عليك شيء واحدٌ، هو ما قلتُ لك: فافْعَلْه وانتهى الموضوع.
إن العبد في بداية اتجاهه إلى الله عز وجل يأتيه الشيطان، ويزين له أشياء، ويخوفه من أشياء، ثم بعد ذلك تأتيه المشاكل من كل نوع، ولكن إذا صبر واحتسب وثبت، فإن الله عز وجل يكفيه كلّ ذلك \(\أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ\)\ [الزمر: 35].
هذه النقطة مهمة جدا، أن يحسَّ المؤمن ويحسَّ المؤمنون بأن الله عز وجل معهم، كما قال عز وجل لسيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام: \(\اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)\)\ [طه: 44-45]. نسأل الله عز وجل التوفيق.
ثالثا: الصبْرَ الصبْرَ لحكم الله، يا من اختاره الله عز وجل لتبليغ دعوة الله.