{ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي } على ضرب المثل { لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين ، وهذا لا يخلو من أمرين : إما أن يكون عالما بحقيقة الحال ، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره ، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة ، فيكون من أجهل الناس ، وأبخسهم حظا من العقل ، فأي : تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة ، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة ، بل الغالب ، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه ، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب ، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال ، ولكنه قال هذا الكلام ، على وجه التهكم والاستهزاء ، بدليل قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } فإثبات أن وصفه الظلم ، في حال دخوله ، الذي جرى منه ، من القول ما جرى ، يدل على تمرده وعناده .
ثم ختم هذا الكافر محاورته لصاحبه بقوله : { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } أى : كائنة ومتحققة . فهو قد أنكر البعث وما يترتب عليه من حساب بعد إنكاره لفناء جنته ، ثم أكد كلامه بجملة قسمية فقال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي } أى : والله لئن رددت إلى ربى على سبيل الفرض والتقدير كما أخبرتنى يا صاحبى بأن هناك بعثا وحسابا { لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا } أى : من هذه الجنة { منقلبا } أى : مرجعاً وعاقبة . اسم مكان من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشئ إلى غيره .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - :
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً }
{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }
والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه ، - أولا - قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة ، ويراه - ثانيا - قد بنى حياته على الغرور والبطر ، واعتقاد الخلود لزينة الحياة الدنيا ، ويراه - ثالثاً - قد أنكر البعث والحساب ، والثواب والعقاب .
ويراه - رابعا - قد توهم أن غناه فى الدنيا سيكون معه مثله فى الآخرة :
قال صاحب الكشاف : " وأخبر عن نفسه بالشك فى بيدودة جنته ، لطول أمله ، واستيلاء الحرص عليه ، وتمادى غفلته ، واغتراره بالمهلة ، واطراحه النظر فى عواقب أمثاله ، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين ، وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم ، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به ، منادية عليه .
وأقسم على أنه إن رد إلى ربه - على سبيل الفرض والتقدير - ليجدن فى الآخرة خيراً من جنته فى الدنيا ، تطمعا وتمنيا على الله . . " .
{ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي : ولئن كان معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله ، ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا لأني مُحظى{[18179]} عند ربي ، ولولا كرامتي{[18180]} عليه ما أعطاني هذا ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [ فصلت : 50 ] ، وقال { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } [ مريم : 77 ] أي : في الدار الآخرة ، تألى على الله ، عز وجل ، وكان سبب نزولها في العاص بن وائل ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنّ أَن تَبِيدَ هََذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىَ رَبّي لأجِدَنّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب دَخَلَ جَنّتَهُ وهي بستانه وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وظلمه نفسه : كفره بالبعث ، وشكه في قيام الساعة ، ونسيانه المعاد إلى الله تعالى ، فأوجب لها بذلك سخط الله وأليم عقابه . وقوله : قالَ ما أظُنّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدا يقول جلّ ثناؤه : قال لما عاين جنته ، ورآها وما فيها من الأشجار والثمار والزروع والأنهار المطردة شكا في المعاد إلى الله : ما أظنّ أن تبيد هذه الجنة أبدا ، ولا تفنى ولا تخْرب ، وما أظنّ الساعة التي وعد الله خلقه الحشر فيها تقول فتحدث ، ثم تمنى أمنية أخرى على شكّ منه ، فقال : وَلَئِنَ رُدِدْتُ إلى رّبي فرجعت إليه ، وهو غير موقن أنه راجع إليه لأَجِدَنّ خَيْرا مِنْها مُنْقَلَبا يقول : لأجدنّ خيرا من جنتي هذه عند الله إن رددت إليه مرجعا ومردّا ، يقول : لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ولى عنده أفضل منها في المعاد إن رددت إليه . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما أظُنّ السّاعَةَ قائِمَةً قال : شكّ ، ثم قال : وَلَئِنْ كان ذلك ثم رُدِدْتُ إلى رَبّي لأَجِدَنّ خَيْرا مِنْها مُنْقَلَبا ما أعطاني هذه إلا ولي عنده خير من ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لَنَفْسِهِ قالَ ما أظُنّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدا وَما أظُنّ السّاعة قائمَةً كفور لنعم ربه ، مكذّب بلقائه ، متمنّ على الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قال: {وما أظن الساعة قائمة}، يعني: القيامة كائنة كما تقول.
{ولئن رددت إلى ربي} في الآخرة، {لأجدن خيرا منها}، يعني: أفضل منها، من جنتي، {منقلبا}، يعني: مرجعا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 35]
يقول تعالى ذكره: هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب "دَخَلَ جَنّتَهُ "وهي بستانه "وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ" وظلمه نفسه: كفره بالبعث، وشكه في قيام الساعة، ونسيانه المعاد إلى الله تعالى، فأوجب لها بذلك سخط الله وأليم عقابه.
"قالَ ما أظُنّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدا" يقول جلّ ثناؤه: قال -لما عاين جنته، ورآها وما فيها من الأشجار والثمار والزروع والأنهار المطردة شكا في المعاد إلى الله -ما أظنّ أن تبيد هذه الجنة أبدا، ولا تفنى ولا تخْرب، وما أظنّ الساعة التي وعد الله خلقه الحشر فيها تقوم فتحدث، ثم تمنى أمنية أخرى على شكّ منه، فقال:"وَلَئِنَ رُدِدْتُ إلى رّبي" فرجعت إليه، وهو غير موقن أنه راجع إليه "لأَجِدَنّ خَيْرا مِنْها مُنْقَلَبا" يقول: لأجدنّ خيرا من جنتي هذه عند الله إن رددت إليه مرجعا ومردّا، يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منها في المعاد إن رددت إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا} قال بعضهم {ما أظن} أي ما أُوقِنُ، وما أعلم. وقال بعضهم: هو الظن لأن صاحبه كان يناظره فيه، فاضطرب في فنائها وقيام الساعة، فشك فيه، والله أعلم.
{أن تبيد هذه أبدا} ما دامت نفسه، أو كأنه لم يشاهد الهلاك، ولم ينظر إليه فقال ذلك، والله أعلم.
أي لو رُدِدْتُ إلى ربي على ما تزعم {لأجدن خيرا منها منقلبا} إن كنتَ صادقا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وإنما قال هذا مع كفره بالله تعالى، لأن المعنى: إن رددت إلى ربي، كما يدعى من رجوعي، فلي خير من هذه، تحكما سولته له نفسه، لا مطمع فيه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
غرور الكفار بالله، مثاله قول بعضهم في أنفسهم وبألسنتهم: إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا ونحن أوفر حظا فيه وأسعد حالا، كما أخبر الله تعالى عنه من قول الرجلين المتحاورين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى} إقسام منه على أنه إن ردَّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وكما يزعم صاحبه ليجدنّ في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا، تطمعاً وتمنياً على الله، وادّعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله، وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه، كقوله {إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50]، {لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]...
{لأوتين مالا وولدا} والسبب في وقوع هذه الشبهة أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقا له، والاستحقاق باق بعد الموت فوجب حصول العطاء. والمقدمة الأولى كاذبة فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج والتملية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فقال: {وما أظن الساعة قائمة} استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه. ولما كان الإنسان مجبولاً على غلبة الرجاء عليه، فإذا حصل له من دواعي الغنى وطول الراحة وبلوغ المأمول والاستدراج بالظفر بالسؤل ما يربيه، ويثبت أصوله ويقويه، اضمحل الخوف فلم يزل يتضاءل حتى لا يتلاشى فكان عدماً، فقال تعالى حاكياً عن هذا الكافر ما أثمر له الرجاء من أمانه من سوء ما يأتي به القدر مقسماً: {ولئن رددت} أي ردني راد {إلى ربي} المحسن إلي في هذه الدار، في السعة على تقدير قيامها الذي يستعمل في فرضه أداة الشك {لأجدن خيراً منها} أي هذه الجنة؛ وقرأ ابن كثير وابن عامر بالتثنية للجنتين {منقلباً} أي من جهة الانقلاب وزمانه ومكانه، لأنه ما أعطاني ذلك إلا باستحقاقي، وهو وصف لي غير منفك في الدارين، وإن لم يقولوا نحو هذا بألسنة مقالهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} على ضرب المثل {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}... وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأيُّ تلازمٍ بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يَظن بجهله أن من أُعْطِيَ في الدنيا أُعطِيَ في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يَزْوِي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيبٌ، والظاهر أنه يَعلم حقيقةَ الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه الغرور يخيل لذوي الجاه والسلطان والمتاع والثراء، أن القيم التي يعاملهم بها أهل هذه الدنيا الفانية تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى! فما داموا يستطيلون على أهل هذه الأرض فلا بد أن يكون لهم عند السماء مكان ملحوظا!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لأجدنَّ خيراً منها منقلباً... وأكد كلامه بلام القسم ونون التوكيد مبالغة في التهكم...
هكذا أطلق لغروره العنان، وإن قبلت منه: {ما أظن أن تبيد هذه أبداً}: فلا يقبل منه. {وما أظن الساعة قائمة}: لذلك ما أنكر قيام الساعة هزته الأوامر الوجدانية، فاستدرك قائلا: {ولئن رددت إلى ربي} أي: على كل حال إن رددت إلى ربي في القيامة، فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن الله تعالى أعد له ما هو افضل من هذا. ونقف لنتأمل قول هذا الجاحد المستعلي بنعمة الله عليه المفتون بها: {ولئن رددت إلى ربي}: حيث يعرف أن له رباً سيرجع إليه، فإن كنت كذوباً فكن ذكوراً، لا تناقض نفسك، فما حدث منك من استعلاء وغرور وشك في قيام الساعة يتنافى وقولك "ربي "ولا يناسبه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهماً بعد آخر مِن أمثال ما حكت عنهُ الآيات آنفاً، وعندَ هذا الحد انبرى لهُ صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم...