{ فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } والتدمير : أشد الإهلاك .
وأصله كسر الشىء على وجه لا يمكن إصلاحه ، وفى الكلام حذف يعرف من السياق .
والمعنى : فقلنا لهما اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وهم فرعون وقومه ، فذهبا إليهم ودعواهم إلى الإيمان ، فأعرضوا عنهما وكذبوهما ، وتمادوا فى طغيانهم ، فكانت عاقبة ذلك أن دمرناهم تدميرا عجيبا ، بأن أغرقهم الله جميعا ، أمام موسى و من معه .
فقوله - تعالى - { فَدَمَّرْنَاهُمْ . . } معطوف على مقدر ، أى : فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميرا .
يقول تعالى متوعداً من كذّب رسولَه محمداً ، صلوات الله وسلامه عليه ، من مشركي قومه ومن خالفه{[21522]} ، ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه ، مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله ، فبدأ بذكر موسى ، عليه السلام ، وأنه ابتعثه وجعل معه أخاه هارون وزيرا ، أي : نبيًّا مُوَازرا ومؤيداً وناصراً ، فكذبهما فرعون وجنوده ، ف { دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ محمد : 10 ] . ، وكذلك فعلَ بقوم نوح حين كذّبوا رسوله نوحاً ، عليه السلام ، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل ؛ إذ لا فرق بين رسول ورسول ، ولو فرض أن الله بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبونه ؛ ولهذا قال : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ } ، ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط ، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، يدعوهم إلى الله ، ويحذرهم نقَمه ، فما آمن معه إلا قليل . ولهذا أغرقهم الله جميعا ، ولم يَبق منهم أحد ، ولم يبق على وجه الأرض من بني آدم سوى أصحاب السفينة فقط .
{ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } أي : عبرة يعتبرون بها ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 - 12 ] . أي : وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لُجَج البحار ، لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق ، وجَعْلكم من ذرّية مَن آمن به وصَدّق أمره .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يتوعد مشركي قومه على كفرهم بالله ، وتكذيبهم رسوله ويخوّفهم من حلول نقمته بهم ، نظير الذي يحلّ بمن كان قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها : وَلَقَدْ آتَيْنا يا محمد مُوسَى الكِتابَ يعني التوراة ، كالذي آتيناك من الفرقان وَجَعَلْنا مَعَهُ أخَاهُ هارُونَ وَزِيرا يعني : معينا وظهيرا فقُلْنا اذْهَبا إلى القَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا يقول : فقلنا لهما : اذهبا إلى فرعون وقومه الذي كذّبوا بإعلامنا وأدلتنا ، فدمرناهم تدميرا . وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر من ذكره وهو : فذهبا فكذبوهما ، فدمرناهم حينئذٍ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم انقطع الكلام فأخبر الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: {فقلنا اذهبا إلى القوم} يعني أهل مصر {الذين كذبوا بآياتنا} يعني الآيات التسع {فدمرناهم تدميرا}، يعني أهلكناهم بالعذاب هلاكا يعني الغرق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فقُلْنا اذْهَبا إلى القَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا" يقول: فقلنا لهما: اذهبا إلى فرعون وقومه الذي كذّبوا بإعلامنا وأدلتنا، "فدمرناهم تدميرا". وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر من ذكره وهو: فذهبا فكذبوهما، فدمرناهم حينئذٍ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم... أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أوّلها وآخرها، لأنهما المقصود بطولها أعني: إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الواو لا ترتب، فلم يلزم من هذا أن يكون هذا الجعل بعد إنزال الكتاب كما هو الواقع، رتب عليه قوله: {فقلنا} أي بعد جعلنا له وزيراً. ولما كان المقصود هنا من القصة التسلية والتخويف، ذكر حاشيتها أولها وآخرها، وهما إلزام الحجة والتدمير، فقال: {اذهبا إلى القوم} أي الذين فيهم قوة وقدرة على ما يعانونه وهم القبط {الذين كذبوا بآياتنا} أي المرئية والمسموعة من الأنبياء الماضين قبل إتيانكما في علم الشهادة، والمرئية والمسموعة منكما بعد إتيانكما في علمنا. فذهبا إليهم فكذبوهما فيما أرياهم وأخبرهم به من الآيات، لما طبعناهم عليه من الطبع المهيىء لذلك.
ولما كان السياق للإنذار بالفرقان، طوي أمرهم إلا في عذابهم فقال: {فدمرناهم} أي لذلك {تدميراً} بإغراقهم أجمعين عل يد موسى عليه السلام في البحر، لم نبق منهم أحداً مع ما أصبناهم به قبل ذلك من المصائب، مع اجتهاد موسى عليه السلام في إحيائهم بالإيمان، الموجب لإبقائهم في الدارين، عكس ما فعلناه بموسى عليه السلام من إنجائه من الهلاك بإلقائه في البحر، وإبقائه بمن اجتهد في إعدامه، وجعلنا لكل منهما حظاً من بحره {هذا ملح أجاج} هو غطاء جهنم، {وهذا عذب فرات} [الفرقان: 53] عنصره من الجنة، فليحذر هؤلاء الذين تدعوهم من مثل ذلك إن فعلوا مثل فعل أولئك.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وأضاف سبحانه القول إلى ذاته العلية تشريفا لهما وتنويها بأمرهما، وقوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الأمر بالذهاب يومئ إلى أنهما مقدمان على أمر جليل في شأنه، خطير في ذاته، لأنه لقوم عتاة، يسبقون إلى الكفر بدل السبق بالإيمان. وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم كذبوا بآيات الله مع التكذيب بعد الذهاب، وبعد الذهاب، وبعدما آتى الله تعالى موسى تسع آيات مبينات، فكيف يكونون موصوفين بذلك عند الذهاب،
والجواب عن ذلك أنه أخبر بالماضي، لبيان تأكد الدفوع منهم، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ... (1)} [النحل]، وكما في قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر (1)} [القمر]، عند بعض المفسرين الذين يقولون: إن انشقاق القمر يوم البعث.
والتدمير إدخال الهلاك في الشيء، أو الهلاك، والفاء أيضا للعطف والترتيب والتعقيب، قد يقال كيف كان التدمير عقب الذهاب، وقد لبث موسى فيهم يدعو سنين،
ونقول: إن الزمن في ذاته لم يكون طويلا، وإن كان عند الناس طويلا؛ ولأن التكذيب يتبعه لا محالة التدمير.
وذكر القوم، ولم يذكر فرعون مع أنه الرأس الطاغي، ونقول في الجواب عن ذلك، إنه لولا حاشيته وقومه ما طغى وتجبر، وكذلك الشأن في كل طاغية جبار ملؤه هم الذين يقرونه ويشجعونه.