جعلنا في الأرض تلك الأشجار ، والنخيل والأعناب ، { لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } قوتا وفاكهة ، وأدْمًا ولذة ، { و } الحال أن تلك الثمار { مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [ وليس لهم فيه صنع ، ولا عمل ، إن هو إلا صنعة أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين ، وأيضا فلم تعمله أيديهم ] بطبخ ولا غيره ، بل أوجد اللّه هذه الثمار ، غير محتاجة لطبخ ولا شيّ ، تؤخذ من أشجارها ، فتؤكل في الحال . { أَفَلَا يَشْكُرُونَ } من ساق لهم هذه النعم ، وأسبغ عليهم من جوده وإحسانه ، ما به تصلح أمور دينهم ودنياهم ، أليس الذي أحيا الأرض بعد موتها ، فأنبت فيها الزروع والأشجار ، وأودع فيها لذيذ الثمار ، وأظهر ذلك الجنى من تلك الغصون ، وفجر الأرض اليابسة الميتة بالعيون ، بقادر على أن يحيي الموتى ؟ بل ، إنه على كل شيء قدير .
واللام فى قوله : { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } متعلق بقوله : { وجعلنا . . . } .
والضمير فى قوله : { مِن ثَمَرِهِ } يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل والأعناب . أو إلى الله - تعالى -أى : وجعلنا فى الأرض ما جعلنا من جنات ومن نخيل ومن أعناب ، ليأكلوا ثمار هذه الأشياء التى جعلناهم لهم ، وليشكرونا على هذه النعم .
و { ما } فى قوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } الظاهر أنها نافية والجملة حالية ، والاستفهام للحض على الشكر .
أى : جعلنا لهم فى الأرض جنات من نخيل وأعناب ، ليأكلوا من ثمار ما جعلناه لهم ، وإن هذه الثمار لم تصنعها أيديهم ، وإنما الذى أوجدها وصنعها هو الله - تعالى - بقدرته ومشيئته .
وما دام الأمر كذلك ، فلا شكرونا على نعمنا ، وأخلصوا العبادة لنا .
قال ابن كثير : وقوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أى : وما ذاك كله إلا من رحمتنا بهم ، لا بسعيهم ولا كدهم ، ولا بحولهم وقوتهم . قاله ابن عباس وقتادة . ولهذا قال : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } أى : فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التى لا تعد ولا تحصى .
ويصح أن تكون{ ما } هنا موصولة فيكون المعنى : ليأكلوا من ثمره ومن الذى عملته أيديهم من هذه الثمار كالعصير الناتج منها ، وكغرسهم لتلك الأشجار وتعهدها بالسقى وغيره ، إلى أن آتت أكلها .
قال الشوكانى : وقوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } معطوف على ثمره ، أى : ليأكلوا من ثمره ، ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن { ما }موصولة ، وقيل : هى نافية ، والمعنى : لم يعملوه بأيديهم ، بل العامل له هو الله . .
وقرأ جمهور الناس : { من ثَمَره } بفتح الثاء والميم ، وقرأ طلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي :«من ثُمُرة » بضمهما ، وقرأ الأعمش : «من ثُمْره » بضم الثاء وسكون الميم ، والضمير في { ثمره } قالت فرقة : هو عائد على الماء الذي يتضمنه قوله :{ وفجرنا فيها من العيون } ؛ لأن التقدير ماء ، وقالت فرقة : هو عائد على جميع ما تقدم مجملاً ، كأنه قال : من ثمر ما ذكرنا ، وقال أبو عبيدة : هو من باب أن يذكر الإنسان شيئين أو ثلاثة ثم يعيد الضمير على واحد ويكني عنه ، كما قال الشاعر ، وهو الأزرق بن طرفة بن العمرد الفارصي الباهلي : [ الطويل ]
رماني بذنب كنت منه ووالدي . . . بريئاً ومن أجل الطويّ رماني{[1]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا وجه في الآية ضعيف ، و { ما } في قوله تعالى : { وما عملته أيديهم } قال الطبري : هي اسم معطوف على الثمر أي : يقع الأكل من الثمر ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة ونحوه ، وقالت فرقة : هي مصدرية وقيل هي نافية ، والتقدير : أنهم يأكلون من ثمره وهي شيء لم تعمله أيديهم بل هي نعمة من الله عليهم ، وقرأ جمهور الناس : «عملته » بالهاء الضمير ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وطلحة وعيسى «عملت » بغير ضمير .
والثَّمَر بفتحتين وبضمتين : ما يغلّه النخل والأعناب من أصناف الثمر وأصناف العنب والثمرة بمنزلة الحبّ للسنبل . وقرأ الجمهور : { ثَمَرِهِ } بفتحتين . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضمتين . والنخيل : اسم جمع نخل .
والأعناب جمع عنب ، وهو يطلق على شجرة الكرم وعلى ثمرها . وجمع النخيل والأعناب باعتبار تعدد أصناف شجره المثمر أصنافاً من ثمره .
ضمير { مِن ثَمَرِهِ } عائد إلى المذكور ، أي من ثمر ما ذكرنا ، كقول رُؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له : هلا قلت : كأنها ؟ فقال : أردت كأن ذلك ويْلَك . وتقدم عند قوله تعالى : { عوان بين ذلك } في سورة البقرة } ( 68 ) .
ويجوز أن يعود الضمير على النخيل وتترك الأعناب للعلم بأنها مثل النخيل . كقول الأزرق بن طرفة بن العمود القراطي{[341]} الباهلي :
رماني بذنب كنتُ منه ووالدي *** بريئاً ومن أجْل الطويِّ رّماني{[342]}
فلم يقل : بريئين ، للعلم بأن والده مثله .
ويجوز أن تكون { ما } في قوله : { وما عَمِلَتْهُ أيدِيهم } موصولة معطوفة على { ثَمَرهِ ، } أي ليأكلوا من ثمر ما أخرجناه ومن ثمر ما عملته أيديهم ، فيكون إدماجاً للإِرشاد إلى إقامة الجنات بالخدمة والسقي والتعهد ليكون ذلك أوفر لأغلالها . وضمير { عَمِلَتْهُ } على هذا عائد إلى اسم الموصول . ويجوز أن يكون { ما } نافية والضمير عائد إلى ما ذكر من الحب والنخيل والأعناب . والمعنى : أن ذلك لم يخلقوه . وهذا أوفر في الامتنان وأنسب بسياق الآية مساق الاستدلال . وقرأ الجمهور : { وما عَمِلَتْهُ } بإثبات هاء الضمير عائداً إلى المذكور من الحب والنخيل والأعناب . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف { وما عملت } بدون هاء ، وكذلك هو مرسوم في المصحف الكوفي وهو جار على حذف المفعول إن كان معلوماً . ويجوز أن يكون من حذف المفعول لإرادة العموم . والتقدير : وما عملت أيديهم شيئاً من ذلك . وكلا الحذفين شائع .
وفرع عليه استفهام الإنكار لعدم شكرهم بأن اتخذوا للذي أوجد هذا الصنع العجيب أنداداً . وجيء بالمضارع مبالغة في إنكار كفرهم بأن الله حقيق بأن يكرروا شكره فكيف يستمرون على الإِشراك به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.