13- يُدخل الليل في النهار ويُدخل النهار في الليل بطول ساعات أحدهما وقصرها في الآخر . حسب أوضاع محكمة مدى الأعوام والدهور ، وسخر الشمس والقمر لمنفعتكم ، كل منهما يجري إلى أجل معين ينتهي إليه . ذلك العظيم الشأن هو الله مدبِّر أموركم ، له الملك - وحده - والذين تدعون من غيره آلهة تعبدونها ما يملكون من لفافة نواة ، فكيف يستأهلون العبادة ؟ ! {[185]}
ومن ذلك أيضا ، إيلاجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل ، يدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا ، كلما أتى أحدهما ذهب الآخر ، ويزيد أحدهما وينقص الآخر ، ويتساويان ، فيقوم بذلك ما يقوم من مصالح العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم .
وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر ، الضياء والنور ، والحركة والسكون ، وانتشار العباد في طلب فضله ، وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف{[744]} وغير ذلك مما هو من الضروريات ، التي لو فقدت لَلَحِقَ الناس الضرر .
وقوله : { كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } أي : كل من الشمس والقمر ، يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن يسيرا ، فإذا جاء الأجل ، وقرب انقضاء الدنيا ، انقطع سيرهما ، وتعطل سلطانهما ، وخسف القمر ، وكورت الشمس ، وانتثرت النجوم .
فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقات العظيمة ، وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه ، قال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } أي : الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ، هو الرب المألوه المعبود ، الذي له الملك كله .
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الأوثان والأصنام { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } أي : لا يملكون شيئا ، لا قليلا ولا كثيرا ، حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء ، وهذا من تنصيص النفي وعمومه ، فكيف يُدْعَوْنَ ، وهم غير مالكين لشيء من ملك السماوات والأرض ؟
ثم بين - سبحانه - نعما أخرى تتجلى فى الليل وفى النهار ، وفى الشمس والقمر ، فقال : { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } .
أى : ومن مظاهر فضله عليكم ، ورحمته بكم ، أنه أوجد لكم الليل والهار بهذا النظام البديع ، بأن أدخل أحدهما فى الآخر ، وجعلهما متعاقبين ، مع زيادة أحدهما عن الآخر فى الزمان ، على حسب اختلاف المطالع ، والمغارب ، وأوجد - أيضا - بفضله ورحمته الشمس والقمر لمنعتكم ، وكل واحد منهما يسير بنظام بديع محكم ، إلى الأجل والوقت الذى حدده الله - تعالى - لانتهاء عمر هذه الدنيا .
والإِشارة فى قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك . . } تعود إلى الخالق والموجد لتلك الكائنات العجيبة البديعة ، وهو الله - عز وجل - .
أى : ذلكم الذى أوجد كل هذه المخلوقات لمنفعتكم ، هو الله - تعالى - ربكم وهو وحده الذى له ملك هذا الكون ، لا يشاركه فيه مشارك ، ولا ينازعه فى ملكيته منازع { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أى : والذين تعبدونهم من دون الله - تعالى - ، وتصفونهم بأنهم آلهة .
{ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } والقطمير : القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة .
أو هو النقطة فى ظهر النواة ، ويضرب مثلاً لأقل شئ وأحقره .
أى : والذين تعبدونهم من دون الله - تعالى - لا يملكون معه - سبحانه - شيئاً . ولو كان هذا الشئ فى نهاية القلة والحقارة والصغر ، كالنكتة التى تكون فى ظهر النواة .
ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار . ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم لجريانهما إلى الأجل المعلوم :
يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل . وسخر الشمس والقمر ، كل يجري لأجل مسمى . .
وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل قد يعني ذينك المشهدين الرائعين . مشهد دخول الليل في النهار ، والضياء يغيب قليلاً قليلاً ، والظلام يدخل قليلاً قليلاً حتى يكون الغروب وما يليه من العتمة البطيئة الدبيب . ومشهد دخول النهار في الليل حينما يتنفس الصبح ، وينتشر الضياء رويداً رويداً ، ويتلاشى الظلام رويداً رويداً ، حتى تشرق الشمس ويعم الضياء . . كذلك قد يعني طول الليل وهو يأكل من النهار وكأنما يدخل فيه . وطول النهار وهو يأكل من الليل وكأنما يدخل فيه . . وقد يعنيهما معاً بتعبير واحد . وكلها مشاهد تطوّف بالقلب في سكون ، وتغمره بشعور من الروعة والتقوى ؛ وهو يرى يد الله تمد هذا الخط ، وتطوي ذاك الخط ، وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط . وفي نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب . ولا يختل يوماً أو عاماً على توالي القرون . .
وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للأجل المرسوم لهما ، والذي لا يعلمه إلا خالقهما . . هو الآخر ظاهرة يراها كل إنسان ، سواء كان يعلم أحجام هذين الجرمين ، ونوعهما من النجوم والكواكب ومدارهما ودورتهما ومداها : أم لا يعلم من هذا كله شيئاً . . فهما بذاتهما يظهران ويختفيان أمام كل إنسان ، ويصعدان وينحدران أمام كل بصر . وهذه الحركة الدائبة التي لا تفتر ولا تختل حركة مشهودة لا يحتاج تدبرها إلى علم وحساب ! ومن ثم فهي آية معروضة في صفحة الكون لجميع العقول وجميع الأجيال على السواء . وقد ندرك نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لأول مرة . وليس هذا هو المهم . إنما المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم ، وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم ، وأن تثير فينا من التدبر ورؤية يد الله المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم . . والحياة حياة القلوب . .
وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدلالة القوية السلطان يعقب بتقرير حقيقة الربوبية ، وبطلان كل ادعاء بالشرك ، وخسران عاقبته يوم القيامة :
( ذلكم الله ربكم له الملك ، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم . ولو سمعوا ما استجابوا لكم . ويوم القيامة يكفرون بشرككم . ولا ينبئك مثل خبير ) . .
ذلكم . الذي أرسل الرياح بالسحاب ، والذي أحيا الأرض بعد موتها ، والذي خلقكم من تراب ، والذي جعلكم أزواجاً ، والذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع ، والذي يعلم ما يعمر وما ينقص من عمره ، والذي خلق البحرين ، والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . . ذلكم هو ( الله ربكم ) . .
( له الملك ) . . ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ) . . والقطمير غلاف النواة ! وحتى هذا الغلاف الزهيد لا يملكه أولئك الذين يدعونهم من دون الله !
{ يولج } معناه يدخل ، وهذه عبارة عن أن ما نقص من { الليل } زاد { في النهار } ، فكأنه دخل فيه ، وكذلك ما نقص من { النهار } يدخل { في الليل } والألف واللام في { الشمس والقمر } هي للعهد ، وقيل هي زائدة لا معنى لها ولا تعريف{[9704]} وهذا أصوب ، و «الأجل المسمى » هو قيام الساعة ، وقيل آماد الليل وآماد النهار ، ف «أجل » على هذا اسم جنس ، وقرأ جمهور الناس «تدعون » بالتاء ، وقرأ الحسن ويعقوب «يدعون » بالياء من تحت ، و «القطمير » القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة هذا قول الناس الحجة ، وقال جويبر{[9705]} عن رجاله «القطمير » القمع الذي في رأس التمرة ، وقاله الضحاك والأول أشهر وأصوب .