ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده ، وهو الجهاد في سبيل الله ، فقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } أي : نختبر إيمانكم وصبركم ، { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } فمن امتثل أمر الله وجاهد في سبيل الله لنصر دينه وإعلاء كلمته فهو المؤمن حقا ، ومن تكاسل عن ذلك ، كان ذلك نقصا في إيمانه .
ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فى خلقه فقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } .
أى : ولنعاملنكم - أيها الناس - معاملة المختبر لكم بالتكاليف الشرعية المتنوعة ، حتى نبين ونظهر لكم المجاهدين منكم من غيرهم ، والصابرين منكم وغير الصابرين { وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } أى : ونظهر أخباركم حتى يتميز الحسن منها من القبيح .
فالمراد بقوله : { حتى نَعْلَمَ المجاهدين . . } إظهار هذا العلم للناس ، حتى يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، وصحيح العقيدة من سقيمها .
وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد هددت المنافقين تهديدا شديدا ، ووبختهم على مسالكهم الذميمة ، وفضحتهم على رءوس الأشهاد ، وحذرت المؤمنين من شرورهم .
والله يعلم حقائق النفوس ومعادنها ، ويطلع على خفاياها وخباياها ، ويعلم ما يكون من أمرها علمه بما هو كائن فعلا . فما هذا الابتلاء ? ولمن يكون العلم من ورائه بما يتكشف عنه ?
إن الله - جلت حكمته - يأخذ البشر بما هو في طوقهم ، وما هو من طبيعتهم واستعدادهم . وهم لا يعلمون عن الحقائق المستكنة ما يعلمه . فلا بد لهم من تكشف الحقائق ليدركوها ويعرفوها ويستيقنوها ، ثم ينتفعوا بها .
والابتلاء بالسراء والضراء ، وبالنعماء والبأساء ، وبالسعة والضيق ، وبالفرج والكرب . . كلها تكشف عما هو مخبوء من معادن النفوس ، وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها . .
أما المراد بعلم الله لما تتكشف عنه النفوس بعد الابتلاء فهو تعلق علمه بها في حالتها الظاهرة التي يراها الناس عليها .
ورؤية الناس لها في صورتها التي تدركها مداركهم هو الذي يؤثر فيهم ويكيف مشاعرهم ، ويوجه حياتهم بوسائلهم الداخلة في طوقهم . وهكذا تتم حكمة الله في الابتلاء .
ومع هذا فإن العبد المؤمن يرجو ألا يتعرض لبلاء الله وامتحانه . ويتطلع إلى عافيته ورحمته . فإذا أصابه بلاء الله بعد هذا صبر له ، وهو مدرك لما وراءه من حكمة ؛ واستسلم لمشيئة الله واثقا من حكمته ، متطلعا الى رحمته وعافيته بعد الابتلاء .
وقد روي عن الفضيل العابد الصوفي أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبلنا . فإنك إن بلوتنا فضحتنا ، وهتكت أستارنا وعذبتنا . .
{ ولنبلونكم } بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة . { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } على مشاقه . { ونبلو أخباركم } ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها وقبحها ، أو أخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم المؤمنين في صدقها وكذبها . وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها ، وعن يعقوب " ونبلو " بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو .
وقرأ جمهور القراء : «ولنبلونكم » بالنون ، وكذلك «نعلم » وكذلك «نبلوا » ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : «وليبلونكم الله » ، وكذلك «يعلم » ويبلو « .
وروى رويس عن يعقوب : «ويبلو » بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم . وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبتلنا ، فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا .
وقوله تعالى : { حتى نعلم المجاهدين } أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم ، وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي ، وإنما المعنى ما ذكرناه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.