ثم ذكر - سبحانه - نوعا آخر من الغم التى امتن بها على عبادهن فقال : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون } .
وللمفسرين فى تفسير هذه الآية أقوال منها : أن الضمير فى " لهم " يعود إلى أهل مكة ، والمراد بذريتهم : أولادهم صغارا وكبارا ، والمراد بالفلك المشحون : جنس السفن .
فيكون المعنى : ومن العلامات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، أننا حملنا - بفضلنا ورحمتنا - أولادهم صغارا وكبارا فى السفن المملوءة بما ينفعهم دون أن يصيبهم أذى ، وسخرنا لهم هذه السفن لينتقلوا فيها من مكان إلى آخر .
ويرى بعضهم أن الضمير فى " لهم " يعود إلى الناس عامة ، والمراد بذريتهم آباؤهم الأقدمون ، والمراد بذريتهم آباؤهم الأقدمون ، والمراد بالفلك المشحون : سفينة نوح - عليه السلام - التى أنجاه الله - تعالى - فيها بمن معه من المؤمنين ، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم .
فيكون المعنى : وعلامة دليل واضح للناس جميعا على قدرتنا ، أننا حملنا - بفضلنا ورحمتنا - آباءهم الأقدمين الذين آمنوا بنوح - عليه السلام - فى السفينة التى أمرناه بصنعها ، والتى كانت مليئة ومشحونة ، بما ينتفعون به فى حياتهم .
قال الجمل : وإطلاق الذرية على الأصول صحيح ، فإن لفظ الذرية مشترك بين الضدين ، الأصول والفروع ؛ لأن الذرية من الذرء بمعنى الخلق .
والفروع مخلوقون من الأصول ، والأصول خلقت منها الفروع . فاسم الذرية يعق على الآباء كما يقع على الأولاد .
وهذا الرأى الثانى قد اختاره الإِمام ابن كثير ولم يذكر سواه ، فقد قال رحمه الله : يقول - تعالى - : ودلالة لهم - أيضا - على قدرته - تعالى - تسخيره البحر ليحمل السفن ، فمن ذلك - بل أوله - سفينة نوح التى أنجاه الله فيها بمن معه من المؤمنين ، ولهذا قال : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أى : آباءهم .
{ فِي الفلك المشحون } أى : فى السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات ، التى أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين .
( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ، إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين ) . .
إن في السياق مناسبة لطيفة بين النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ، والفلك المشحون السابح في الماء يحمل ذرية بني آدم ! مناسبة في الشكل ، ومناسبة في الحركة ، ومناسبة في تسخير هذا وذلك بأمر الله ، وحفظه بقدرته في السماوات والأرض سواء .
وهذه آية كتلك يراها العباد ولا يتدبرونها . بل هذه أقرب إليهم وأيسر تدبراً لو فتحوا قلوبهم للآيات .
ولعل الفلك المشحون المذكور هنا هو فلك نوح أبي البشر الثاني ؛ الذي حمل فيه ذرية آدم .
يقول تعالى : ودلالة لهم أيضًا على قدرته تعالى : تسخيره البحر ليحمل{[24758]} السفن ، فمن ذلك - بل أوله - سفينة نوح ، عليه السلام ، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين ، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم ؛ ولهذا قال : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : آباءهم ، { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : في السفينة [ الموقرة ]{[24759]} المملوءة من الأمتعة والحيوانات ، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين .
قال ابن عباس : المشحون : المُوقَر . وكذا قال سعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، [ والضحاك ] {[24760]} والسدي .
وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد : وهي سفينة نوح ، عليه السلام .
{ آية } معناه علامة ودليل ، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله { لهم } ، و { أنا } بدل من { آية } وفيه نظر ، ويجوز أن تكون «أن » مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلاً ، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش «ذرياتهم » بالجمع ، وقرأ الباقون «ذريتهم » بالإفراد ، وهي قراءة طليحة وعيسى ، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس ، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه في هذا ، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة ، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين : أحدهما قاله ابن عباس وجماعة ، وهو أن يريد ب «الذريات المحمولين » أصحاب نوح في السفينة ، ويريد بقوله { من مثله } السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإياها أراد الله تعالى بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس أيضاً هو أن يريد بقوله { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة .
ويريد بقوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط ، ويعود قوله { وإن نشأ نغرقهم } على السفن الموجودة في الناس ، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل { من مثله } في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى : { وإن نشأ نغرقهم } فتأمله ، و { الفلك } جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر ، و { من } في قوله { من مثله } ، يتجه على أحد التأويلين : أن تكون للتبعيض ، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره ، ويقال الإبل مراكب البر .
انتقال من عدّ آيات في الأرض وفي السماء إلى عد آية في البحر تجمع بين العبرة والمنة وهي آية تسخير الفُلْك أن تسير على الماء وتسخير الماء لتطفو عليه دون أن يغرقها .
وقد ذكَّر الله الناس بآية عظيمة اشتهرت حتى كانت كالمشاهدة عندهم وهي آية إلهام نوح صنع السفينة ليحمل الناس الذين آمنوا ويحمل من كل أنواع الحيوان زوجين لينجي الأنواع من الهلاك والاضمحلال بالغرق في حادث الطوفان . ولما كانت هذه الآية حاصلة لفائدة حمل أزواج من أنواع الحيوان جُعلت الآية نفس الحمل إدماجاً للمنة في ضمن العبرة فكأنه قيل : وآية لهم صنع الفُلك لنحمل ذرياتهم فيه فحملناهم .
وأطلق الحَمل على الإِنجاء من الغرق على وجه المجاز المرسل لعلاقة السببية والمسببية ، أي أنجينا ذرياتهم من الغرق بحملهم في الفُلك حين الطوفان .
والذريات : جمع ذرية وهي نسل الإِنسان . و { الفلك المشحون } : هو المعهود بين البشر في قصة الطوفان ، وهو هنا مفرد بقرينة وصفه بالمفرد وهو { المَشْحُونِ } ولم يقل : المشحونة كما قال : { وترى الفلك فيه مواخر } [ فاطر : 12 ] وهو فلك نوح فقد اشتهر بهذا الوصف في القرآن كما في سورة الشعراء ( 119 ) { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } ولم يوصف غير فلك نوح بهذا الوصف .
وتعدية { حَمَلْنَا } إلى الذريات تعدية على المفعولية المجازية وهو مجاز عقلي فإن المجاز العقلي لا يختص بالإِسناد بل يكون المجاز في التعليق فإن المحمول أصول الذريات لا الذريات وأصولها ملابسة لها .
ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحاً بصنع الفلك لإِنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نُزّل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في زمن نوح ، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازاً في الكلام ، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل : إنا حملنا أُصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم ، إذ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريّات ، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل ، وهذا كالامتنان في قوله : { إنّا لمّا طغى الماءُ حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة } [ الحاقة : 11 ، 12 ] .
وضمير { ذُرَّيَاتَهُم } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { لَهُمْ } أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهمْ لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر ، فالمعنى : آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحاً بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريات البشر فكان ذلك حملاً لذرياتهم ما تسلسلت كما تقدم آنفاً .
هذا هو تأويل هذه الآية قال القرطبي : وهي من أشكل ما في السورة ، وقال ابن عطية : « قد خلط بعض الناس حتى قالوا : الذرية تطلق على الآباء وهذا لا يعرف من اللغة » وتقدم قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } في سورة الأعراف ( 172 ) . f
وقرأ نافع وابن عامر { ذرياتهم } بلفظ الجمع . وقرأه الباقون بدون ألف بصيغة اسم الجمع ، والمعنى واحد . وقد فهم من دلالة قوله : { أنَّا حَمَلْنَا ذُرِيَّاتَهُمْ } صريحاً وكناية أن هذه الآية مستمرة لكل ناظر إذ يشهدون أسفارهم وأسفار أمثالهم في البحر وخاصة سكان الشطوط والسواحل مثل أهل جُدة وأهل يُنْبُع إذ يسافرون إلى بلاد اليمن وبلاد الحبشة فيفهم منه : أنا حملنا ونحمل وسنحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم . وقد وصف طرفة السفن في معلّقته .