ثم حكى - سبحانه - جانبا من دعائهم إياه . وخوفهم من عقابه ، فقال : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ } بأن تبعده عنا وتبعدنا عنه .
{ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أى : إن عذابها كان لازما دائما غير مفارق ، منه سمى الغريم غريما لملازمته لغريمه ، ويقال : فلان مغرم بكذا ، إذا كان ملازما لمحبته والتعلق به .
وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى ، والخوف من عذاب جهنم . يقولون : ( ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقرا ومقاما ) . . وما رأوا جهنم ، ولكنهم آمنوا بوجودها ، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم . فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق ، وثمرة التصديق .
وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم . لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ؛ فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم ، ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار ، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته ، فيصرف عنهم عذاب جهنم .
والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد ، متصدية لكل بشر ، فاتحة فاها ، تهم أن تلتهم ، باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد ! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ، يخافونها ويخشونها ، ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها ، وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها !
ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا : ( إن عذابها كان غراما ) : أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله ؛ فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا . . (
أي : ملازما دائما ، كما قال الشاعر{[21588]} :
إنْ يُعَذّب يَكُنْ غَرَامًا ، وإن يُعْ *** ط جزيلا فإنه لا يُبَالي
ولهذا قال الحسن في قوله : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } : كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام ، وإنما الغرام اللازم ما دامت السموات والأرض . وكذا قال سليمان التيمي .
وقال محمد بن كعب [ القرظي ]{[21589]} : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } يعني : ما نعموا في الدنيا ؛ إن الله سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه ، فأغرمهم فأدخلهم النار .
ومدحهم تعالى بدعائه في صرف { عذاب جهنم } من حيث ذلك دليل على صحة عقدهم وإيمانهم ومن حيث أعمالهم بحسبه ، و { غراماً } معناه ملازماً ، وقيل مجحفاً ومنه غرام الحب ومنه المغرم ومنه قول الأعشى : [ الخفيف ]
إن يعاقب يكن غراماً وإن يع . . . ط جزيلاً فإنه لا يبالي{[8874]}
وقول بشر أبي حازم : [ المتقارب ]
ويوم النسار ويوم الجفار . . . كانا عناء وكانا غراما{[8875]}
دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربّهم لينجوا من العذاب ، فالمراد بصرف العذاب : إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح وتوفيره واجتناب السيئات .
وجملة { إن عذابها كان غراماً } يجوز أن تكون حكاية من كلام القائلين . ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى معترضة بين اسمي الموصول ، وعلى كل فهي تعليل لسؤال صرف عذابها عنهم .
والغرام : الهلاك المُلِحّ الدائِم ، وغلب إطلاقه على الشر المستمر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما} يعني: لازما لصاحبه لا يفارقه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنّمَ" يقول تعالى ذكره: والذين يدعون الله أن يصرف عنهم عقابه وعذابه حذرا منه ووجلاً.
وقوله: "إنّ عَذَابها كانَ غَرَاما" يقول: إن عذاب جهنم كان غراما ملحّا دائما لازما غير مفارق من عذّب به من الكفار، ومهلكا له...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يجتهدون غاية الاجتهاد، ويستفرغون نهاية الوسع، وعند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التَنَصُّل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{غَرَاماً}: هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً...
وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه، إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله [تعالى] في صرف العذاب عنهم، كقوله تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر تهذيبهم لأنفسهم للخلق والخالق، أشار إلى أنه لا إعجاب عندهم، بل هم وجلون، وأن الحامل لهم على ذلك الإيمان بالآخرة التي كذب بها الجاهلون {يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون:60] وقدموا الدعاء بالنجاة اهتماماً بدرء المفسدة، وإشعاراً بأنهم مستحقون لذلك وإن اجتهدوا، لتقصيرهم عن أن يقدروه سبحانه حق قدره فقال: {والذين يقولون ربنا} أي أيها المحسن إلينا {اصرف عنا عذاب جهنم} الذي أحاط بنا لاستحقاقنا إياه إلا أن يتداركنا عفوك ورحمتك، بما توفقنا له من لقاء من يؤدينا بطلاقة الوجه، لا بالتجهم، ثم علل سؤالهم يقولهم: {إن عذابها كان} أي كوناً جبلت عليه {غراماً} أي هلاكاً وخسراناً ملحاً محيطا بمن تعلق به مذلاً له، دائماً بمن غرى به، لازماً له لا ينفك عنه.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
فهم يبتهلون إلى الله تعالى في صرف العذاب عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي: ادفعه عنا بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما وقع منا مما هو مقتض للعذاب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى، والخوف من عذاب جهنم. يقولون: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقرا ومقاما).. وما رأوا جهنم، ولكنهم آمنوا بوجودها، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم. فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق، وثمرة التصديق. وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم. لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما؛ فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم، ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته، فيصرف عنهم عذاب جهنم. والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد، متصدية لكل بشر، فاتحة فاها، تهم أن تلتهم، باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد!
وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، يخافونها ويخشونها، ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها، وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها! ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا: (إن عذابها كان غراما): أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله؛ فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربّهم لينجوا من العذاب، فالمراد بصرف العذاب: إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح وتوفيره واجتناب السيئات.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
والوصف الرابع من أوصاف "عباد الرحمن "يشير إليه قوله تعالى: {والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما}، بمعنى أنهم بالرغم مما هم عليه من طاعة وعبادة وحسن خلق لا يسيطر عليهم العجب والغرور بما قدموه من أعمال، بل يدعون الله، وهم بين يديه ساجدون، وفي تهجدهم مستغرقون، أن يقيهم عذاب النار ويجنبهم ما في القيامة من أهوال، وهكذا يتقلب قلب المؤمن الحق دائما بين الخوف والرجاء، وإن بلغ ما بلغ في درجات القرب والاصطفاء، ومعنى لفظ "الغرام" في قوله تعالى هنا: {إن عذابها كان غراما} الهلاك الملازم، والخسران الدائم.