{ تُؤْتِي أُكُلَهَا } أي : ثمرتها { كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } فكذلك شجرة الإيمان ، أصلها ثابت في قلب المؤمن ، علما واعتقادا . وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والأخلاق المرضية ، والآداب الحسنة في السماء دائما يصعد إلى الله منه من الأعمال والأقوال التي تخرجها شجرة الإيمان ما ينتفع به المؤمن وينفع غيره ، { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ما أمرهم به ونهاهم عنه ، فإن في ضرب الأمثال تقريبا للمعاني المعقولة من الأمثال المحسوسة ، ويتبين المعنى الذي أراده الله غاية البيان ، ويتضح غاية الوضوح ، وهذا من رحمته وحسن تعليمه . فلله أتم الحمد وأكمله وأعمه ، فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها ، في قلب المؤمن .
والمراد بالأكل فى قوله - تعالى - { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا . . } المأكول ، وهو الثمر الناتج عنها .
والمراد بالحين : الوقت الذى حدده الله - تعالى - للانتفاع بثمارها من غير تعيين بزمن معين من صباح أو مساء .
قال الشوكانى ما ملخصه : " قوله { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } كل وقت { بِإِذْنِ رَبِّهَا } بإرادته ومشيئته " .
وقيل : المراد بكونها تؤتى أكلها كل حين : أى كل ساعة من الساعات من ليل أو نهار فى جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف . وقيل المراد فى أوقات مختلفة من غير تعيين .
وقيل : كل غدوة وعشية ، وقيل : كل شهر . . .
وهذه الأقوال متقاربة . لأن الحين عند جمهور أهل اللغة بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره .
وبهذا نرى أن الله - تعالى - قد وصف هذه الشجرة بأربع صفات ، أولها : أنها طيبة ، وثانيها : أن أصلها ثابت ، وثالثها : أن فرعها فى السماء ، ورابعها : أنها تؤتى ثمارها كل حين بإذن ربها .
وهذه الأوصاف تدل على فخامة شأنها ، وجمال منظرها ، وطيب ثمرها ، ودوان نفعها كما تدل على أن المشبه وهو الكلمة الطيبة ، مطابق فى هذه الأوصاف للمشبه به وهو الشجرة الطيبة .
وقوله - سبحانه - { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } بيان للحكمة التى من أجلها سيقت الأمثال ، وهى التذكر والتفكير والاعتبار . أى : ويضرب الله - تعالى - الأمثال للناس رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويتذكروا ما أمرهم - سبحانه - بتذكره إذ ضرب الأمثال تقريب للبعيد ، وتقرير للقريب ، وتصوير للمعانى المعقولة بالصور المحسوسة .
( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )
وشجرة النبوة هنا وظل إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح ، وهي تؤتي أكلها كل فترة ، أكلا جنيا طيبا . . نبيا من الأنبياء . . يثمر إيمانا وخيرا وحيوية . .
ولكن المثل - بعد تناسقه مع جو السورة وجو القصة - أبعد من هذا آفاقا ، وأعرض مساحة ، وأعمق حقيقة .
إن الكلمة الطيبة - كلمة الحق - لكالشجرة الطيبة . ثابتة سامقة مثمرة . . ثابتة لا تزعزعها الأعاصير ، ولا تعصف بها رياح الباطل ؛ ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية ، تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها ، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن . .
وقوله : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } قيل : غُدوة وعَشيا . وقيل : كل شهر . وقيل : كل شهرين .
وقيل : كل ستة أشهر . وقيل : كل سبعة أشهر . وقيل : كل سنة .
والظاهر من السياق : أن المؤمن مثله كمثل شجرة ، لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء ، أو ليل أو نهار ، كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين .
{ بِإِذْنِ رَبِّهَا } أي : كاملا حسنا كثيرا طيبا ، { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
وقوله : تُؤْتِي أُكُلَها كُلّ حِينٍ باذْنِ رَبّها يقول : تطعم ما يؤكل منها من ثمرها ، كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّها وَيَضْرِبُ الأمْثالَ للنّاسِ يقول : ويمثّل الله الأمثال للناس ويشبه لهم الأشياء ، لَعَلّهُمْ يَتَذّكّرُونَ يقول : ليتذكروا حجة الله عليهم ، فيعتبروا بها ويتعظوا ، فينزجروا عما هم عليه من الكفر به إلى الإيمان .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنىّ بالكلمة الطيبة ، فقال بعضهم : عُني بها : إيمان المؤمن . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كَلمَةً طَيّبَةً شهادة أن لا إله إلا الله ، كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ وهو المؤمن ، أصْلُها ثابتٌ يقول : لا إله إلا الله ثابت في قلب المؤمن ، وَفَرْعُها فِي السّماءِ يقول : يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : كَلَمَةً طَيّبَةً قال : هذا مثل الإيمان ، فالإيمان : الشجرة الطيبة ، وأصله الثابت الذي لا يزول : الإخلاص لله ، وفرعه في السماء ، فرعه : خشية الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ قال : كنخلة .
قال ابن جريج : وقال آخرون : الكلمة الطيبة أصلها ثابت في ذات أصل في القلب وَفَرْعُها فِي السّماءِ تعرج فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله .
وقال آخرون : بل عُني بها المؤمن نفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجرَةٍ طَيّبَةٍ أصْلُها ثابَتٌ وَفَرْعُها فِي السّماءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ باذْنِ رَبّها ، يعني بالشجرة الطيبة : المؤمن ، ويعني بالأصل الثابت : في الأرض ، وبالفرع في السماء : يكون المؤمن يعمل في الأرض ، ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم وقُتل بعض ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت : إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائكَةُ ظالِمي أنْفُسِهمْ . . . إلى آخر الاَية قال : وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الاَية لا عذر لهم ، قال : فخرجوا فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت هذه الاَية : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ . . . إلى آخر الاَية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا وأيسوا من كلّ خير ، ثم نزلت فيهم : ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فكتبوا إليهم بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجا . فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، ثم نجا من نجا وقُتل من قُتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : نزلت هذه الاَية في عمّار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد : ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في شأن ابن أبي سرح . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا في سورة النحل : مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ ولكنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا فَعَليْهُمْ غَضَبٌ منَ اللّهِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ثم نسخ واستثنى من ذلك ، فقال : ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأزلّه الشيطان ، فلحق بالكفار ، فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له أبو عمرو ، فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم .
اختلف أهل العربية في رافع مَثَلُ ، فقال بعض نحويّي البصرة : إنما هو كأنه قال : ومما نقصّ عليك مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا ، ثم أقبل يفسر كما قال : مَثَلُ الجَنّة ، وهذا كثير . وقال بعض نحوّيي الكوفيين : إنما المَثَل للأعمال ، ولكن العرب تُقَدّم الأسماء لأنها أعرف ، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه . معنى الكلام : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرَماد ، كما قيل : وَيَوْمَ القِيامَةِ تَرى الّذِين كَذَبُوا على اللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدّةٌ ومعنى الكلام : ترى ويوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة . قال : ولو خفض الأعمال جاز ، كما قال : يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ . . . الاَية . وقوله : مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ تَجْرِفي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ قال : فتجري هو في موضع الخبر ، كأنه قال : أن تجريَ ، وأن يكون كذا وكذا ، فلو أدخل «أن » جاز ، قال : ومنه قول الشاعر :
ذَرِيني إنّ أمْرَكِ لَنْ يُطاعاوَما ألْفَيْتِني حِلْمِي مُضَاعَا
قال : فالحلم منصور ب «ألفيت » على التكرير ، قال : ولو رفعه كان صوابا . قال : وهذا مثَل ضربه الله لأعمال الكفّار ، فقال : مثل أعمال الذين كفروا يوم القيامة التي كانوا يعملونها في الدنيا يزعمون أنهم يريدون الله بها ، مثل رماد عصفت الريح عليه في يوم ريح عاصف ، فنسفته وذهبت به ، فكذلك أعمال أهل الكفر به يوم القيامة ، لا يجدون منها شيئا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه ، لأنهم لم يكونوا يعملونها لله خالصا ، بل كانوا يشركون فيها الأوثان والأصنام ، يقول الله عزّ وجلّ : ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعِيدُ يعني أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا التي يشركون فيها مع الله شركاء ، هي أعمال عُملت على غير هدى واستقامة ، بل على جَوْر عن الهدى بعيد ، وأخذ على غير استقامة شديد . وقيل : فِي يَوْمٍ عاصِفٍ فوُصف بالعُصوف ، وهو من صفة الريح ، لأن الريح تكون فيه كما يقال : يوم بارد ، ويوم حارّ ، لأن البرد والحرارة يكونان فيه وكما قال الشاعر :
والأُكْل بضم الهمزة المأكول ، وإضافته إلى ضمير الشجرة على معنى اللام . وتقدم عند قوله : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } في سورة الرعد ( 4 ) .
فالمشبّه هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس والفرح في النفس ، وازدياد أصول النفع باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رُسوخ الأصل ، وجمال المنظر ، ونماء أغصان الأشجار .
ووفرة الثِمار ، ومتعة أكلها . وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من الهيئة الأخرى ، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلاً لجمع التشبيه وتفريقه .
وكذلك القول في تمثيل حال الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة على الضد بجميع الصفات الماضية من اضطراب الاعتقاد ، وضيق الصدر ، وكدر التفكير ، والضر المتعاقب . وقد اختصر فيها التمثيل اختصاراً اكتفاءً بالمضاد ، فانتفت عنها سائر المنافع للكلمة الطيبة .
وفي « جامع الترمذي » عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " قال : هي النخلة ، { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } قال : هي الحَنْظَل .